على هامش انقلاب قيس

- ‎فيمقالات

كانت الثورة التونسية أولى ثورات الربيع العربي، لكنها لم ولن تكون آخرها، فالظلم والاستبداد والفقر والقهر لم ينته، بل لا يزال يتمدد، ويوفر الوقود اللازم لموجات ثورية جديدة عندما تكتمل أشراطها.

هزيمة الموجة الأولى للربيع العربي هي خسارة لجولة في معركة ممتدة من أجل الحرية والكرامة والتنمية، وهي معركة خاضتها قبلنا شعوب كثيرة، طالت لسنوات وعقود، ودفعت خلالها أثمانًا باهظة من القتل والحبس والمطاردة وفقدان الرزق الخ حتى نالت حريتها وكرامتها، واستقرت ديمقراطيتها في وجدان الحاكم والمحكوم، فأصبحت سلوكا فطريا لا يقبل الجدال.

في الربيع العربي بموجتيه الأولى (تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا) والثانية (الجزائر والسودان ونسبيا لبنان والعراق) تفاوتت التضحيات، فقد كانت قليلة نسبيا في مصر وتونس، والسودان والجزائر، بينما كانت أكبر في سوريا وليبيا واليمن (وأقصد ووأوقصد هنا فترة الحراك الثوري القصيرة وليس ما سبقها من تاريخ نضالي ممتد).

كانت الثورة المصرية في وجه من وجوهها بمثابة عرض ترويحي مجاني لممارسات الحرية والكرامة والعدالة، على غرار تلك العروض الترويجية للسلع الجديدة (استخدامها لمدة محددة مجانا ثم الدفع لاقتنائها بشكل كامل) وبعد أن مارس المصريون (مجانا) هذه الحرية بلا سقف، والكرامة بلا خدش، والعدالة بلا تزييف، كان عليهم أن يدفعوا الثمن لامتلاك هذه القيم بشكل مستدام، وها هم يدفعون الثمن منذ انقلاب يوليو ٢٠١٣ ولا يزال الدفع مستمرا.

الخريطة الدولية

في تونس حيث الشرارة الأولى نجحت بعض الحيل والتفاهمات والتنازلات في إطالة مدة العرض الترويجي، لكنها لم تصمد أكثر من عشر سنوات، وصار مطلوبا من التونسيين دفع الثمن الحقيقي لاقتناء الحرية والديمقراطية والتنمية بشكل مستدام، وهو ما ينطبق أيضا على باقي الشعوب العربية سواء التي مرت بموجات ثورية أو التي لم تمر .

انظر إلى الخريطة الدولية، وخاصة خارطة التحول السياسي من نظم استبدادية إلى نظم ديمقراطية، ستجد أن المنطقة العربية هي الأكثر استعصاء على التحول، مرت أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية بالتحول السياسي، ومرت العديد من الدول الأفريقية والأسيوية، ولكن هذه الموجات كانت تتعثر على عتبات العالم العربي حتى تمكنت من الدخول بهجمة مفاجئة بدءا من الثورة التونسية والمصرية بشكل خاص، عنصر المفاجئة حقق مكاسب مؤقتة، لكنه لا يكفي لتحقيق الاستدامة التي تتطلب جهدا مضاعفا للحفاظ على تلك المكاسب وتطويرها.

نشكو جميعا من التآمر الغربي ضدنا، ومنعه لأي تطور ديمقراطي حقيقي في بلادنا، وصمته أو دعمه للانقلابات العسكرية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما حدث في انقلاب عسكر الجزائر على انتخابات ١٩٩٢، وكما حدث في رفضه لفوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام ٢٠٠٦، وكما حدث في دعمه لانقلاب السيسي في ٢٠١٣، وصمته أو دعمه لانقلاب قيس سعيد الحالي في تونس، لكن هذه الشكوى ليست في محلها، فالطبيعي أن يفعل الغرب الاستعماري ذلك وهو الذي لايزال ينظر إلينا باعتبارنا مستعمراته السابقة، ولكن الشكوى الحقيقية أو المشكلة الأكبر هي مع قطاعات واسعة من شعوبنا التي لا تزال قابلة بالظلم والاستبداد والفقر والقهر تحت شعار الاستقرار، فهذه القطاعات هي التي تواجه التحول الديمقراطي سواء تم ذلك بثورة أو حتى عبر انتخابات.

ليس خافيا الدور الكبير الذي لعبته قطاعات شعبية واسعة في ثورات الربيع العربي، وتضحياتها للدفاع عن مكتسباته، وهي تضحيات تكتب فيها كتب وروايات، ولكن لا يمكننا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، فالذين وقفوا مع الانقلابات لا يقلون عن الذين وقفوا مع الثورات بل يزيدون عليهم، وهذا أمر لا يدعو للإحباط بقدر ما يدعوا لوصف صحيح للمرض، وتحديد العلاج الأنسب له، فليس متوقعا أن يكون الشعب كله على موقف واحد، ولكن وجود هذه الأعداد الكبيرة لرافضي التغيير أمر مؤسف، ويستحق جهدا خاصا من دعاة التغيير لإقناعهم بأهميته.

من دروس الثورات والانقلابات في منطقتنا أن التنافس في تمتين وتمكين وتوعية المجتمع أهم وأولى من التنافس على سلطة لا يملك الكثيرون أدوات التعامل معها، وينبغي عليهم قبل الاقتراب منها إعداد العدة لها، وقد وفرت تجارب ومعارك الفترة الماضية لهم خبرات ومعلومات عن مفاصل هذه السلطة ومداخلها ومخارجها، ونقاط ضعفها وقوتها بما لم يكن متاحا من قبل.

كما أثبتت التجربة أن الممارسة الديمقراطية على مستوى الحكم والدولة يلزمها مجتمع مدني ديمقراطي، وأحزاب وحركات ديمقراطية بحق، وهو ما لم يظهر منه إلا القليل في الممارسة العملية، فالكثير من الأحزاب والحركات التي تقود النضال من أجل الديمقراطية تفتقر إلى هذه الممارسة داخلها، وهي مدعوة الآن لترسيخ هذه الممارسة داخل صفوفها (تأطيرا وتنظيرا وممارسة فعلية)، كم كان غريبا أن أحزابا أو قوى تدعي الديمقراطية أو تنسب نفسها لليبرالية ثم تكون الأكثر هرولة نحو الانقلابات العسكرية نكاية في خصوم سياسيين مدنيين مثلها وإن حملوا توجهات إسلامية، وكم كان غريبا أن قوى أو حركات إسلامية تعلن ظاهرًا إيمانها بالشورى والمؤسسية ثم تسقط في أقرب اختبار عملي.

الفجوة الواسعة بين القوى والتيارات السياسية هي من سمات المجتمعات المتخلفة، وهذه الفجوة الواسعة في المعتقدات السياسية والفكرية والتي تظهر عند كل منعطف، تحتاج إلى تقريب وتهذيب، وهذا لا يتم من خلال الفرض والإملاء من طرف على طرف كما يحدث في مساعي الاصطفاف السياسي، ولكنه سيأتي نتيجة حوارات حقيقية وعميقة داخل تلك القوى والتيارات بعد التجارب المريرة التي مرت بها، ونتيجة لهذه الحوارات الداخلية لن تعود التيارات الإسلامية (على الأقل المتصدرة للعمل العام) كما كانت من قبل، ولن تبقى القوى والتيارات العلمانية على ما هي عليه من تطرف ومظهرية كاذبة، بل ستترسخ القناعة بالتداول السلمي للسلطة، وستترسخ قواعد الممارسة الديمقراطية، مع حق كل تيار أو قوة سياسية في طرح برنامجها على الشعب وتنفيذه حال نيلها ثقته.

المعركة ضد انقلاب قيس في تونس لا تزال في محطاتها الأولى، وقد تنجح في دحره، أو قد تنهزم، أو ربما تصل إلى حلول وسط، ولكن في كل الأحوال فإن معركة ترسيخ الديمقراطية والحرية لا تزال تحتاج إلى جهد وصبر.

……………

نقلا عن "الجزيرة مباشر"