شيخنا وأستاذنا الحبيب صلاح عبد الفتّاح الخالدي يلبّي نداء ربّه ويرحلُ عن دنيانا الفانية وقد وافاه الأجل فكانَ وقعُ الرّحيل موجعًا.
تتقاصرُ الكلماتُ في حضرةِ الكبار، فتخرجُ باردةً باهتةً مهما تجلّلت بالوجع والألم والحرقة، وإنّي لأشهدُ أنّ نعيَ الكبار بقدر وجعه فإنّه من الصّعوبة بمكان، ولكنّه محاولةٌ للاقتراب من أسوار الحصون العالية أمّا الإحاطة بالأسوار فضلًا عن الحصن فلا يستطيعه كليلُ الجواد من أمثالي.
إذا أردت أن تجمع مواصفاتٍ شتّى في رجلٍ واحدٍ وبعبارةٍ واحدةٍ فتقول: "العالم، المفسّر، القرآن المتنقّل، العامل، الجريء القوّال للحقّ، بالغ التّواضع، الدّاعية القريب، المربّي النّاصح، المضحّي بلا تردّد، المؤلّف الغزير، الهيّن الليّن مع المسلمين، القويّ الثابت مع المستبدّين، عاشق الأقصى، محبّ المرابطين المقاومين، مناصر الثّائرين" فأنت لا تبالغ إن قلت إنّها تعريفٌ موجزٌ لشيخنا صلاح عبد الفتّاح الخالدي.
لقد عاشَ بالقرآن وللقرآن مفسّرًا ومعلّمًا، فكان رجل القرآن بحقّ.
وكان عنوان التضحية لأجل كلمة الحقّ بلا أيّة حسابات، فيقول كلمته لا يهاب أحدًا وقد ناله أذىً كبيرٌ فما وهن ولا استكان ولا تقهقر.
وكان المربّي الذي يألفه الجميع، ويحبّه من عرفه بالمجالسة أو بالتواصل من بعيد أو بالقراءة من غير معرفة شخصيّة.
كانت فلسطين والقدس والأقصى تملك عليه وجدانه وقلبه وعقله ويسيلُ قلمه بذلك.
وكانت مواجهة الطغيان والاستبداد من الواضحات المُسلّمات عنده فما توانى في مناصرة ثورةٍ من ثورات الشّعوب في مواجهة الطّغاة المستبدّين.
كانت بداية معرفتي بشيخنا الحبيب في بدايات الشّباب والطلب مع سنوات الجامعة الأولى فكنت حريصًا على قراءة كتبه التي تجعلك توقن أنّك بين يدي عالمٍ عزّ مثيلُه في التّعامل مع القرآن الكريم.
وكان اللقاء الأوّل في دمشق قبلَ أكثر من ثلاثة عشر عامًا، فكان في اللقيا أجلّ مما رسمت له من صورةٍ في مخيال طالب العلم التوّاق للقاء شيخه وقد قرأ له الكثير من كتبه، فكان بتواضعه يزداد هيبةً ووقارًا.
وبعد أن استقرّ بي المقام في اسطنبول استمرّ التّواصل مع شيخنا الحبيب، وما فتئ يغمرني بفضلِه وحبّه، فكان يرسل إليّ من عظيم تواضعه مثنيًا على ما أكتب ويخبرني أنّه يتابع ما أكتبه بحبّ، وهذا والله من عظيم فضله وتواضعه ومنهاجه التربوي، فكان يشجّعني على الثّبات على مواقفي والاستمرار على النّهج الذي أكتب فيه ويعبّر لي عن حبّه لي فيزداد قلبي تدفّقًا بحبّه والشّوق له، حتّى التقيته في اسطنبول قبل بضع سنوات فكان لقاءً مؤثّرًا بي أكثر من عشرات الكتب وأبلغ نفعًا من عشرات المحاضرات.
لا أملك إلّا أن أطلب من قلمي أن يتوقّف عن الكتابة ليضرع قلبي إلى ربّ الأرض والسماوات أن يجعل شيخنا في الفردوس الأعلى، وأن تكون ساعاته هذه أحلى ساعاته بلقاء الله تعالى، وأن يرزقه صحبة النبي صلى الله عليه وسلّم والأنبياء المرسلين جميعًا والصحابة الكرام في الجنان، وإنّ العين لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، وإنّا على فرقك يا شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلّا ما يرضي ربّنا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون