الوعى أولا

- ‎فيمقالات

من ذكرياتى فى أيام الثورة أننى لما استيقظت لصلاة فجر الخميس (٣ فبراير 2011) علمت بـتطورات «موقعة الجمل»، التى بدأت ظهر الأربعاء، فتوجهت باكرًا إلى الميدان وقد عاينت آثار الجريمة ومخلفاتها (١٣ حصانًا وجملًا واحدًا) ومن كانوا يسوقونها.. وفى تمام العاشرة، وكان الميدان قد امتلأ عن آخره بعد زحف الثوار إليه، اتصل بى صديق يخبرنى بمجيئه وهو لا يعرف مكانى، خرجت لمقابلته قريبًا من كوبرى الجلاء، ففوجئت بنحو عشر نسوة يهاجمنه بالشتم والسب ويتهمنه بالعمالة والتمويل من إيران، وما إن صافحته حتى نالنى هجومهنّ وسبهنّ، ثم تجرأت إحداهنّ واقتربت للاشتباك معى، وقالت ماذا تفعل هنا يا عدو الوطن؟

وكان السؤال مدخلًا للنقاش معها والذى أخذ منحًى آخر؛ حيث دعوتها للدخول ومعاينة الميدان وما جرى فيه ليلة أمس، واستجابت المرأة التى كانت تعمل فى إحدى الوزارات وقد أخرجوهن -كما أخبرتنى فيما بعدُ- لتخذيل الثوار.. وأكرمنا الله بوجود أصدقاء فى الداخل استعرضتْ معهم أعداد المصابين وكل ما جرى فى الموقعة فى جولة استمرت أكثر من ساعة، جاءت بعدها تشهق من البكاء وتتأسف -حسب ما قالت- على غبائها وجهلها، وأقسمت لتكونن مع الحق أينما كان، وقد ظلت هذه السيدة على اتصال بى تستشيرنى فى كل حدث، حتى وقع الانقلاب فانقطع اتصالها بالمرة.

الشاهد من القصة أن الجهل عدو الحقيقة، صنو التخلف والعبودية، وأنه لا بد من تحرير الوعى أولًا وقبل كل شىء؛ لأنه قاطرة الثورة ووقودها، وبدونه لا تكتمل وإن استوفت مظاهرها، فهى ثمرته ونتاجه. من أجل ذلك رأينا كيف يجاهد المستبدون لتزييفه؛ باحتكار الإعلام، وتغيير المناهج، والتفنن فى الإلهاء وتغييب الحقائق؛ لتشكيل الرأى العام ثم السيطرة على العقل الجمعى، ورأينا كيف يدغدغون المشاعر ويخاطبون العاطفة، ويحتكرون الوطنية بسيناريوهات كاذبة حتى صدقهم قطاع لا بأس به من المغيبين، وكان كاهنهم (ناصر) هو الأسوة؛ إذ رغم جرائمه وانتكاساته التى لا تُحصى ظل لعقود هو الفريد الأسطورة الذى قد تغيب الشمس والقمر لغيابه!

و«الوعى» كما يعرِّفه الدكتور «عبد الكريم بكار» هو (معرفة المرء بوجوده، وإدارته لأفكاره ومشاعره، وحين تتسع دائرة وعى الإنسان يصبح مدركًا لمحيطه، وزمانه، وما فيه من مصادر السرور وبواعث الحزن، كما يصبح مدركًا للفرص والتحديات والإمكانات المتوافرة فى ذلك المحيط)، وهو بهذا التعريف يشير إلى معنى «الفهم» فى الإسلام الذى قدمه الله تعالى على العبادة فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ…) [محمد: 19]، فمعرفة الله سابقة على طاعته، وهو معنى العقيدة السليمة، المبنية على العقل والتمييز، والحجة البرهان؛ كى تستقر مواطئ الأقدام، وتنضج العاطفة والوجدان ولا يكون زيغٌ بعد هدى وإيمان.

إن الذين قاموا على مدى عقود يغيّبون الحقائق ويحطمون القيم ويتجرؤون على هوية الأمة، يحتاجون رجل عقيدة مؤمنًا بما آمنت به الرسل، لا إمعة طائشًا يأسى على المتاع الرخيص ويغره الإعلام الساقط وتقولات أنصاف السياسيين، هذا الرجل هو الذى لا يتردد فى بذل النصح للآخرين، وتبيين الحقائق، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وكبح الظالم، ومساندة المظلوم مؤملًا أن يهدى الله به أناسًا للحق، وما بين الحق والباطل نية الداعى؛ فإن صدق صدقه الله ونفع به، وإن كانت الأخرى يئس وقنط وربما لحق بأهل الباطل عياذًا بالله.

وإن الوعى والإيمان قرينان، ألم تر إلى امرأة فرعون التى ضرب الله بها مثلًا للذين آمنوا؟ وماشطة ابنته، وقد ضحتا بحياتهما لأجل القضية الإنسانية العادلة، ووقفتا، وهما امرأتان ضعيفتان، فى وجه عدو الله ومضرب المثل فى الطغيان والجبروت؛ ما جعل القرآن حاشدًا بالآيات المؤكدة لأسبقية الفهم للاتباع، والوعى للفعل، والتعقل للسلوك؛ (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ…) [الزمر: 17، 18]، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2].

لقد التمس النبى ﷺ العذر لقومه فيما فعلوه به يوم أُحد وغيره من الأيام؛ لضلالهم وجهلهم؛ «اللهمَّ اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون»، رافضًا العجلة عليهم، غير مستجيب لعاطفة بعض من حوله فى الانتقام منهم؛ لأن من ورائه تكاليف وعليه بلاغ لم يؤدهما بعدُ تمام الأداء وقد نزل عليه فيما نزل؛ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [ البقرة: 187]، وإن هى إلا سنوات من الدعوة والمشقة حتى منَّ الله عليه بهداية من حوله، وانظر إلى تذكيره ﷺ لـ«عمر»، رضى الله عنه، وقد أراد الفاروق يومًا قتل رأس النفاق «ابن أُبىّ»: «كيف ترى يا عمر؟ إنى والله لو قتلته يوم قلتَ لأُرعدتْ له أنوفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته»، منهم «عبد الله»

ابنه الذى وعى قول النبى ﷺ وآمن به حتى قال له: «يا رسول الله! بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أُبى فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتْ الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى..)، ثم وقف هذا الابن على باب المدينة واستلّ سيفه، فلما جاء أبوه قال له: «والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن رسول الله، فإنه العزيز وأنت الذليل».