رحلة الفرج واليقين

- ‎فيمقالات

كانت حادثة الإسراء والمعراج فرزًا للصفِّ المسلم الذى انقسم عقبها إلى حزبين، إن جازت التسمية؛ حزب أبى بكر وضربائه من المؤمنين الصالحين الذين صدَّقوا النبى وآمنوا بروايته، وحزب المنشقين وأتباعهم إلى يومنا هذا، منهم «أبو حمَّالات»، الذين طاشوا عند سماع الخبر، وشككوا في الحادثة برمتها؛ لقلة إيمانهم ولضيق أفقهم فلم يميزوا بين نبىٍّ وبشرىٍّ، وبين واقع ومعجزة، فارتدوا عن الإسلام ولحقوا بأبى جهل والملأ من قومه.

ورغم ما ساقه النبى ﷺ لهؤلاء المنكرين من أدلة؛ كوصف بيت المقدس الذى لم يزره من قبل، والعير التى بالروحاء، والعير الثانية التى لفلان، والعير الثالثة التى بالأبواء -فإنهم غرّهم عقلهم القاصر فلم يتعظوا بما اتعظ به الصديق الذى جاءوه فقالوا: هل إلى صاحبك! يزعم أنه أُسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء فى غدوة أو روحة.

إن معجزات السماء ليست قصرًا على نبينا ﷺ؛ فما من نبى أو رسول إلا وله برهان على قومه، كما لم يكن نبيُنا بدعًا فى تأييد الله له ودعمه بالمعجزات الباثَّة لليقين فى قلبه؛ لقد خاطب إبراهيم من قبل، قال جل شأنه: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟) قال إبراهيم: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، قال تعالى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260]، ومثله موسى لما قال له: (لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى) [طه: 23]، وبالمثل قال لمحمد ﷺ: (لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]، (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 18].

جاءت تلك الرحلة الميمونة إذًا إيناسًا وتطمينًا للنفس التى تتابعت عليها الخطوب، وأنهكتها الحوادث، واستوطنها الحزن؛ ليرى ما يسعده ويقرُّ فؤاده؛ معجزة تلو أخرى، ومباهج تستعصى على فهم البشر لولا أن الله تعالى أراه إياها بعينه جلَّ وعزَّ، فإذا هو يودِّع اليأس وينهض لما بعد تلك الليلة وما أثقله من حِمْلٍ، وإن صلاته بالأنبياء والرسل كانت الجائزة الكبرى والميزة العظمى التى أعطته لقب «خاتم الأنبياء»، وجعلت رسالته هى «الرسالة الخاتمة» بعدما نسخت ما قبلها من شرائع وسُنن.

لقد كانت الإسراء والمعراج توطئة للهجرة وما بعدها؛ ما يتطلب يقينًا لا يتزحزح ونفسًا تستشرف الفرج ولا تتوقع الانكسار، ويدرك قارئ التاريخ هذا اليقين وذلك الفرج فى سيرة الرسول وسَيْرِهِ عقب هذه الليلة؛ ففى ليلة الهجرة يتصرف تصرف الواثق الموقن حتى يخرج من بين أيدى القوم فلم ينتبهوا إليه، بين يديه شعار (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وفى الغار يجلس مطمئنًا يصبِّر صاحبه الذى جزع لرؤية المشركين فقال لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال ﷺ: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن -أى لا تخف- إن الله معنا».

واستشعار هذه المعية هو ما يجب أن يكون ديدن كل مؤمن؛ فإنه عقب كل شدة يكون الفرج، وعقب كل محنة تكون المنحة، وإن مع العسر يسرًا، جعله الله ملازمًا له فلا يفارقه؛ دليل قُرب والتصاق (هى شدةٌ يأتى السرور عقيبها… وأسًى يبشِّر بالسرور العاجل)، (اصبر قليلًا فبعد العسر تيسيرٌ… وكلُّ أمرٍ له وقت وتدبير)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].

وفى حين كان المنافقون فى الخندق يقولون ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، كان الواثق بربه يبشِّر المؤمنين بما سيجنونه من ثمار الصبر والتضحية، ولم يرها؛ إذ عندما اعترضت الصحابة صخرة وهم يحفرون، ضربها الرسول ثلاث ضربات فتفتتت، قال إثر الضربة الأولى: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى الساعة).. وقد تحققت هذه البشارات جميعًا بعد أعوام قليلة، رغم أجواء الحصار والزلزلة التى قيلت فيها.