إحسان الفقيه تكتب: بروتس… مقترح أمريكي لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا

- ‎فيمقالات

«حتى أنت يا بروتس» بتلك العبارة الشهيرة في الأدب العالمي، جسد شكسبير في روايته «يوليوس قيصر» مشهد الاغتيال التاريخي لقيصر روما، الذي تم في اجتماع مجلس الشيوخ، وكانت الفجيعة الكبرى التي دفعت يوليوس قيصر لأن ينطق بهذه العبارة وهو يغطي وجهه بثيابه في حسرة واستسلام، أنه كان من بين المتآمرين الذين اغتالوه، أقرب رجاله إليه، وهو ماركوس جونيوس بروتس، فأصبحت هذه الكلمات ترمز للطعنة التي تأتي من الداخل، أو على يد أقرب الأقربين.
تدور عجلة الزمان، وتغدو شخصية بروتس حاضرة في أعتى الأزمات التي يمر بها العالم في الوقت الراهن، وهي الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ أن الحرب الكلامية بين المعسكرين الغربي والشرقي، تمخضت عن أمنية تحريضية، أدلى بها السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام، يرى أن الحل يكمن في «بروتس» روسي، يوجه طعنة الخلاص لصاحب الملامح الرخامية بوتين.
المقترح أو الأمنية التي اعتبرتها روسيا تحريضا علنيا على اغتيال بوتين، يقودنا إلى التساؤل عن إمكانية إنهاء الأزمة بهذه الطريقة، بمعنى: هل يمكن بالفعل أن يغتال بوتين على يد مقربيه أو رجاله؟ هذه المسألة التي طرحها السيناتور الأمريكي مبنية على افتراض أن روسيا يحكمها الزعيم الفرد، الذي يتحكم وحده في مصير الدولة، في ظل وجود معارضة في السلطة والشارع، لا تستطيع أن تعبر عن رفضها لسياساته، ومن ثم يسهل أن يخرج من بينهم «بروتس» ليغتال الرئيس، فتنقلب السياسات الخارجية الروسية رأسا على عقب، وتنسحب الجيوش الروسية من أوكرانيا، وتنتهي الأزمة. بشكل مباشر أقول، إن إمكانية اغتيال بوتين على يد رجاله والمقربين منه غير واردة، وفقا للحسابات الواقعية، وذلك باعتبار ما يلي.

على الرغم من أن بوتين ديكتاتور، إلا أنه أحاط نفسه بسياج من الرجال المخلصين، قام بتجهيزهم جيدا، فأي سياسي في روسيا لا بد له من الحصول على دعم الطبقة الحاكمة في البلاد، قبل أن يتخذ قرارات سياسية حاسمة، وهذا ما ورد في دراسة ومتابعة تحليلية لسير الأحداث في روسيا، فترة تولي مدفيديف منصب الرئاسة، بينما كان بوتين في موقع رئيس الوزراء، أعدته الباحثة الروسية أولغا كريشتنوفسكايا، للإجابة على تساؤل عمن يحكم روسيا في واقع الحال، أم بوتين، ومن منهما الأهم؟ وذكرت الدراسة أن الصلاحيات الممنوحة، أو إعطاء الأوامر، تحتاج إلى من ينفذها على أرض الواقع. ولهذا فإنه على كل من يصل إلى المركز الأول في السلطة، أن يقوم بتشكيل فريقه الخاص به، ويحتاج الشخص الأول في السلطة عادة لتشكيل مثل هذا الفريق الخاص خلال فترة العامين، وهي الفترة التي احتاجها كل من الرؤساء بريجنيف وغورباتشوف ويلتسين لتشكيل فرقهم الخاصة بهم. وأعضاء هذه الفرق عادة ما يكونون من المخلصين لرؤسائهم، وينتقلون معهم لأي مكان أو منصب ينتقل إليه هؤلاء الرؤساء. أما الرئيس بوتين فقد أمضى أكثر من سنتين لتشكيل فريقه، وقد استطاع منذ بداية عام 2003 أن يحيط نفسه بأنصار مخلصين له.
فدولة من الدول العظمى مثل روسيا في مكانتها الدولية والإقليمية المهمة، لا يمكن لها أن تنتهج سياسات خارجية صارخة على هذا النحو الذي ينذر بكارثة كونية، وهي تساس بحكم فرد واحد لا أنصار له يحيطون به، ولهم أهدافه وطموحاته نفسها.
بوتين رجل المخابرات القوي، أسس أسلوبا خاصا منذ وجوده في السلطة، من خلال ما يعرف بمجموعة السبت، إذ كان يعقد خلال السبت من كل أسبوع في مكتبه بالكرملين اجتماعا يضم رئيس الوزراء ورئيس ديوان رئاسة الكرملين ووزيري الدفاع والداخلية، ورئيس جهاز المخابرات ومكافحة التجسس، بما يعني أن بوتين يحتفظ بالمؤسسات الصلبة في قالب التوافق. الرجل ذو ثقل سياسي كبير، وصاحب تأثير بالغ في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ويمتلك قوة برلمانية عالية، فمن الصعب القول إن بوتين بهذا السياج القوي الموالي له يمكن أن يتعرض للاغتيال.

الحرب على أوكرانيا لم تكن قرارا فرديا استبداديا تم بمعزل عن توافق القوى المؤثرة والمؤسسات الصلبة في روسيا، ويصعب القول بهذا حتى في ظل القول إن بوتين استعاد الحكم الشمولي مرة أخرى، فلذا لا تعتبر الطبقة الحاكمة زعيمها بوتين قاد البلاد إلى الهاوية، بل إنه يتصرف وفقا للوزن التاريخي للبلاد، فأتباع بوتين يقولون إنه لو لم يكن بوتين لصنعناه، تعبيرا عن حاجتهم إلى ذلك القائد الذي يعيد مجد الإمبراطورية السوفييتية.
المسار السياسي والعسكري والأمني لبوتين جعله جديرا بثقة مؤسسات الدولة، وتاريخه يؤكد أنه صاحب مشروع وهدف قومي لإعادة روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي إلى سابق العهد من الأمجاد السوفييتية التي لا تزال عالقة في وجدان الروس. فهو ابن سانت بطرسبورغ، خريج كلية الحقوق تخصص العلاقات الدولية، وحاصل على الدكتوراه في فلسفة الاقتصاد، ، انضم في الحقبة السوفييتية إلى كي جي بي، وكان عميلا لها في ألمانيا الشرقية سابقا، وبعد عودته عمل مديرا للشؤون الإدارية في الرئاسة الروسية، وتقلد عام 1997 منصب مدير ديوان الرئيس الروسي، وعينه الرئيس يلتسين رئيسا للوزراء عام 1998، وبعد تنحي يلتسين أصبح بوتين رئيسا بالوكالة حتى فاز في انتخابات 2000، وأعيد انتخابه لولاية ثانية عام 2004 بعد فوز كاسح، ولم يتمكن من ولاية ثالثة عام 2008 لمعوقات دستورية، فتبادل الأدوار مع رئيس حكومته مدفيديف فتولى منصب رئاسة الوزراء، ثم عاد لولاية رئاسية ثالثة بعد فوزه في انتخابات 2012، وضم شبه جزيرة القرم، وأنهى مسألة الشيشان، وخاض انتخابات 2018 بولاية رابعة لمدة ست سنوات، وفي استفتاءات 2020 حول التعديلات الدستورية، جاءت الأصوات لصالح بوتين في تلك التعديلات التي تسمح له بحكم روسيا حتى عام 2036.
فرجل بهذا التاريخ الحافل من النجاح في الاستحقاقات الانتخابية، حتى مع القول بالتلاعب فيها، لا بد وأن يكون مدعوما بقوة من مؤسسات الدولة فضلا عن شعبيته الكبيرة بين الجماهير الروسية، بما يصعب القول إن بوتين يعمل وحيدا ويعزف منفردا في سياساته، فهل يتوقع لمثل هذا المناخ الذي يعيش فيه الرجل أن يكون عرضة للاغتيال؟ شعبية بوتين ارتفعت عندما ضم شبه جزيرة القرم، ثم ارتفعت مؤخرا بعد الحرب على أوكرانيا، وفقا لاستطلاع مؤسسة الرأي العام الروسية إف أو إم، وزاد عدد الروس الذين يثقون في بوتين من 60% إلى 71% في أقل من أسبوعين، إضافة إلى استطلاعات رأي أخرى وتصريحات لمسؤولين من الروس حول ازدياد شعبية بوتين. وإن كانت تلك الاستطلاعات مجروحة، إلا أن وسائل الإعلام الغربية، رغم نقلها مخاوف الشعب الروسي من تبعات الحرب، إلا إنها لم تستطع أن تبرهن على انخفاض شعبية بوتين، بما يعني أن معظم الشعب الروسي حتى الآن يدعم سياسات بوتين، فعلى الرغم من صعوبة الظروف الإقليمية والدولية وانعكاساتها على المواطن في الداخل، إلا أن بوتين في نظر الروس يجسد القوة التاريخية لروسيا. بوتين لم يدخل الحرب على طريقة الكاميكازي الانتحارية، بل شأنه شأن أوروبا وأمريكا، لا يريد أن تندلع الحرب، لكنه يعلم أن الغرب يصعّد بدافع الأولويات، والأولويات لديه هي الغاز والنفط، فلن تضحي به هذه الدول وتشعل حربا من أجل أوكرانيا، فالرجل يدير الحرب وفق محددات واضحة تمنحه الثقة في المناورة والتفاوض مع الغرب بما يحقق له أكبر المكاسب.
تأسيسا على كل ما سبق، ندرك متى سطحية الأمنية التحريضية التي أطلقها السيناتور الأمريكي، فوفقا لحسابات الواقع، يصعب للغاية أن يكون هناك بروتس داخل هذا السياج القوي المحيط ببوتين – من توافق مع الطبقة الحاكمة وشعبية جماهيرية – يمكن له أن ينهي القضية باغتيال القيصر الروسي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

…………..

نقلا عن "القدس العربي"