محمد الأسطل يكتب: مشاهد من حسن الخاتمة

- ‎فيمقالات

سجَّلت كتبُ التراجم مشاهد من حسن الخاتمة لآلافٍ من العلماء والمجاهدين والصالحين، ورصدت الكاميرات في هذا العصر المئات من ذلك، ومع تتبعي لهذا الباب وكتابتي لكتاب "من عاش على شيءٍ مات عليه"، والذي رصد عددًا جيدًا من ذلك.. إلا أنني لم أجد أحلى وأبهج من خاتمتين واحدة مسطورة والثانية مصورة.

أما المسطورة.. فهي خاتمة الشيخ عبد الله عزام رحمه الله؛ حيث فاضت روحه يوم جمعة وهو ذاهبٌ لخطبة الجمعة بعد ليلةٍ أصلح فيها بين جماعتين من المسلمين، وتهجد فيها ببعض الركعات والناس نيام، وصبيحةٍ تلا فيها سورة الكهف مع أهل بيته مع تعليقاتٍ وهداياتٍ واعظةٍ منها.

ثم تكون الخاتمة بعد ساعاتٍ من هذه الأعمال مجتمعةً شهادةً في سبيل الله؛ حيث قُتِل بتفجير سيارته ومن قوة الانفجار طار في الهواء ثم سقط على هيئة السجود، وظنَّه من رآه أنه يسجد سجدة الشكر على النجاة، فلما وصله وجده أنه قضى نَحْبَه على ذلك.

وأما المُصوَّرة.. فهي خاتمة الشهيد عدي التميمي رحمه الله، والتي رأيتموها وربما كررتم النظر إليها مرة بعد مرة. ما زلت من يومين أُقلِّبُ الفكرة تلو الفكرة التي أُعقِّب بها على المشهد، فتضيق العبارة ولا تُسعِفُ الإشارة، وما استطعت مع تكرار المحاولة أن أحول مشاعر الصدور إلى سطور، ووددت لو أنَّ أحد الشعراء كفاني ذلك بأبياتٍ تؤرخ لهذه الخاتمة العظيمة المهيبة!.

شابٌ في مقتبل العمر ينفذ عمليةً من مسافة صفر، يقابل فيها جنود ما يعرف بدولة الكيان التي ترتعد منها فرائص دول المنطقة، ثم ينسحب، ثم يخرج ليكون مُطارِدًا بعد أن كان مُطارَدًا فيهاجمهم من جديد في مكانٍ جديد بعزمٍ من حديد. فيُطلق النار، ثم يُسقِطُهُ رصاصُ العدو فيواصل الرمي، ثم يسقطه رصاص العدو من جديد، فيستدير ويقف ويغير هيأته يجالد نفسه ولا يأبه بحاله وهو يواصل إطلاق النار، كلُّ همه أن يُثخن في العدو!.

كأنَّ الله جعله مذهولًا عن فكرة الشهادة؛ ليبقى تفكيره محصورًا في سؤالٍ واحد: كيف يثخن أشد الإثخان في أعداء الله؟! لم ينتظر رصاصة الإجهاز عليه ليطمئن أنه غادر الدنيا وهو يحمل السلاح في سبيل الله، كما هي أمنية المئات من المجاهــديـ.ــن، كلا؛ بل كان تفكيره في إغاظة أعداء الله وكَبْتِهم، فانشغل لدينه عن نفسه حتى في موضوع الشهادة نفسه!

قلت لكم: إنني احترت في نوعية الكتابة عنه؛ بعد أن تزاحمت المشاعر والخواطر وتواردت الأفكار والأنوار، وأول فكرة خططتها حين أردت الكتابة أن قلت ما مفاده: هذه خيرية أمة محمد صلى الله عليه وسلم!. لقد اقتفى عديٌّ نبيه صلى الله عليه وسلم واتبعه وسار على دربه دون أن يراه، ثم إنه رغم ذلك ورغم أنه يعيش في زمن الغربة والتنازل والتطبيع، وزمن الخِذلان من دولٍ وأنظمةٍ وهيئاتٍ، والتشكيك في جدوى الجِهاد من المداخلة وفئامٍ من العلمانيين وبعض المدارس العقلية، والحكم على جهـ.ـاد هذا البلد بالإرهاب.. إلا أنه مضى وسط ذلك كله مقبلًا غير مدبر لا يلتفت.

قارن هذا كله -لتعرف فضل هذا الشاب وفضل هذه الأمة المحمدية التي حملت لواء الجهـ.ـاد- بما قاله بنو إسرائيل لنبي الله موسى عليه السلام بشكلٍ مباشرٍ مشافهةً من غير واسطةٍ لما أمرهم بدخول الأرض المقدسة لتحريرها وهم أمة ضخمة: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]!. وبعد أن وُعِظوا وحُرِّضوا راحوا يقولون بكلامٍ واضحٍ حاسم: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]!!. فراح نبي الله موسى عليه السلام يقول: { رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]. هذا ما استطعت تحبيره بعد جهدٍ جهيد. رحم الله عديًّا، وأفرغ على أهله وإخوانه الصبر والرضا، وجزى الله خيرًا من ربَّاه ومن علَّمه حرفًا، ومن شحنه بمعاني الجهــ.ـاد. والحمد لله الذي يكرم عباده ويثبتهم بمثل هذه النماذج، على أنَّ في غزة عندنا أمثلةً مقاربة لهذه الخاتمة، وما أحسب أن أحدًا سطرها إلى اليوم، ولعلي أفعل إذا مدَّ الله في العمر، والحمد لله رب العالمين.