د. أميرة أبو الفتوح تكتب: قطر بين عنصرية الغرب وحقد الأشقاء!

- ‎فيمقالات

لا شك أن قطر تعيش ليلة من ليالي ألف وليلة التي يحسبها الناس خيالاً، فإذا بهم يرونها بأم أعينهم حقيقة وواقعاً يتجسد أمامهم بصوره المبهرة التي تخطف معها القلوب وتُذهل العقول. فهذا البلد صغير الحجم يقيم عُرساً ضخماً، يدعو إليه كل بلاد العالم وتتسع أرضه بما ضاقت؛ ليستقبل أكثر من مليوني شخص من جميع الجنسيات والأعراق، حاملين أعلام بلادهم مع العلم القطري، ويغزو شاشات العالم أجمع ليشارك مئات الملايين من البشر بهذا العُرس الرياضي الفريد في نسخته القطرية التي غلبت كل ما سبقته وربما ما ستلحقه من نسخ المونديال..

لقد سجلت قطر منعطفاً مهماً في تاريخها وتاريخ العلاقة التاريخية للعرب والمسلمين بالرياضة، فلأول مرة في التاريخ تُقام مسابقة كأس العالم على أرض عربية إسلامية. ولقد أدركت قطر تلك المسؤولية المُلقاة على عاتقها، وإن كانت هي مَن سعت إليها طوعاً، وقبلت التحدي وتصدت له، وكانت بكل أمانة على مستوى المسؤولية بجدارة، ونجحت في الإعداد والتنظيم لهذا الحدث الرياضي الأهم في العالم، فجاء حفل الافتتاح مبهراً وعلى مستوى عال وراق من حيث الإعداد والإخراج، وكان اختيار إطلاق صافرة المونديال من "استاد البيت"، اختيارا ذكياً ولمّاحاً لما يحمله من دلالات بليغة ومعان عميقة. فلقد شُكل الملعب، شديد الحداثة، على هيئة خيمة بدوية فائقة الجمال، تحمل عبق التاريخ وأصالة الماضي وحداثة الحاضر، فظهور الجمل وسط صحرائها القديمة، إنما يدل على فخر قطر واعتزازها بتاريخها وتأكيدها على هويتها العربية.
 

لقد استدعت بدايات نشأتها وتطورها من خلال عرض صور تجسد مراحل علاقتها مع رياضة كرة القدم منذ عقود بعيدة، لتأخذنا بعد ذلك إلى صورتها اليوم من تطور وتقدم وحداثة وازدهار، فأذهلت الحضور وخاصة الغربيين منهم، الذين رسّخ إعلامهم الصهيوني صورة ذهنية نمطية عن البلاد العربية في عيونهم، بأنها بلاد صحراوية قاحلة تحت أرضها مخازن من البترول، وأنها بلاد صراعات ونزاعات وحروب، يعيش أهلها في الخيام وترتع فيها الجمال والأبغال والحمير.. إنه صراع الحضارات التي أسقطته قطر في مونديال 2022..

ومما أسر قلوب الشعوب العربية والإسلامية؛ استهلال الحفل بآيات من القرآن الكريم تأكيداً على هويتها الإسلامية التي لا انفصام لها ولا فصال فيها..

لقد أثبتت قطر أن العرب قادرون على النجاح والإبداع، ما يجعلنا جميعاً كأمة عربية نقف وبكل قوة خلف ابنة تلك الأمة في هذا الحدث العالمي الرياضي الأبرز الذي لا يتكرر إلا كل أربع سنوات..

لقد أظهرت قطر قدرات إدارية وسياسية كبيرة في مواجهة استفزازات وحملات مضادة وأيديولوجية لم يكن لها نظير من قبل، واستطاعت تخطي عقبات هائلة، فمنذ أن فازت قطر بتنظيم مسابقة كأس العالم لكرة القدم (المونديال) عام 2010، والحرب الإعلامية العالمية عليها لا تتوقف، تارة بدعوى صعوبة استضافة دولة صغيرة الحجم كقطر وبمناخها شديد الحرارة، أهم حدث رياضي في العالم، وتارة أخرى ينشرون معلومات كاذبة حول الحياة في قطر وقوانينها، وثالثة أنها رشت الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)!

وجاء حصار قطر من قِبل دول الجوار الخليجي عام 2017، ليزيد من سعير تلك الحرب القذرة عليها لإبعادها عن المسابقة، ولم تتوقف الحرب حتى بعد حدوث المصالحة واتفاق العلا الذي تم في السعودية، وجاءت جائحة "كورونا" والحرب الروسية ضد أوكرانيا فرصة ذهبية لدول شقيقة لبث الشائعات عن إلغاء مونديال 2022، وظل إعلامهم يردد وينفخ في تلك الشائعة، ثم بعدما اقترب موعد المسابقة بدأوا يتندرون ويتحسرون على عشرات مليارات الدولارات التي أنفقتها قطر استعداداً لاستضافة المونديال!
 

لقد حاولت بعض المنظمات الدولية دس أفكاراً وهويات مختلفة، مثل محاولة الاعتراف بالمثليين ووضع شارات خاصة لهم على ملابس اللاعبين، كما يحدث في الملاعب الأوروبية، ولكن قطر رفضت بشدة وطالبت الضيوف بالالتزام بوجودهم في دولة عربية مسلمة، لها تقاليدها وأخلاقها.

ومع اقتراب موعد المونديال، ازداد سعير تلك الحرب القذرة وأظهرت الدول الغربية السبب الحقيقي لهجومها على قطر، فلم يكن سجلها في حقوق الإنسان وحقوق المثليين ولا حقوق المرأة ولا حقوق العمال، ولكن لرفض هذه الدول إقامة هذه المسابقة العالمية على أرض عربية وإسلامية، فأظهرت بذلك وجهها العنصري الاستعماري البغيض واستعلائها وغطرستها على الدول العربية. غير أن كل هذه المنغصات لم تفلح في منع إقامة كأس العالم في قطر، وها هي الأجراس قد قرعت وأطلقت صافرة البداية وفُتح الستار، على الحدث الرياضي الأبرز في العالم من فوق أرض عربية إسلامية لأول مرة في التاريخ؛ بمزيج بين الثقافة والتقاليد القطرية والثقافة العالمية..

إن التداخل بين السياسة والرياضة أمر قديم- جديد، وما الهجمة الشرسة على قطر إلا أحد التجليات الواضحة لتسييس الرياضة، ولهذا لم يعد المونديال مجرد بطولة كرة قدم، بل صار ملعباً كبيراً تتنافس بل تتصارع فيه السياسات والهويات والأيديولوجيات المختلفة، ولذلك وجدنا تكثيفاً غير مسبوق في الخطاب الإعلامي لمسألة المثليين، لفرض قيم وأفكار على الدولة المضيفة، فقد استخدم خطاب استشراقي استعماري متعمد يهدف لهدم كل الشعارات النبيلة للمونديال، التي سبق وأن وُضعت واتفق عليها الجميع منذ البداية، والمتمثلة باستغلال المسابقة في تعريف الشعوب بعضها ببعض، والتواصل عن قرب بشكل لا يتوافر في أي مناسبة أخرى، لا لفرض نموذج ثقافي وسلوكي غربي على الدولة المشرقية (قطر) التي تحتفظ بقيمها وتقاليدها وثقافتها وهويتها العربية الإسلامية..

لقد أعرب أمير قطر الشيخ "تميم بن حمد آل ثاني"، عن أسفه لتعرض بلاده لحملة غير مسبوقة من الافتراءات لم يتعرض لها أي بلد مضيف، بسبب استضافتها للمونديال، وقال: "إن استضافة بلاده كأس العالم في كرة القدم هي مناسبة نظهر فيها من نحن، ليس فقط لناحية قوة اقتصادنا ومؤسساتنا، بل أيضا على مستوي هويتنا الحضارية"، وأضاف: "لقد قبلنا التحدي إدراكاً منا لأهمية استضافة حدث كبيرة مثل كأس العالم في الوطن العربي"..

اثنا عشر عاماً يجاهدون جَهد إيمانهم لإبعاد قطر عن استضافة الحدث الكروي الأبرز في العالم، وقطر تجاهد جهد إيمانها لإثبات ذاتها للظهور بالمظهر اللائق بها أمام العالم وتقديم نسخة غير مسبوقة لكأس العالم، فألقت بكل الاتهامات والافتراءات خلف ظهرها وعملت على قدم وساق في تأسيس البنية التحتية اللازمة وبناء الملاعب الرياضية على أعلى مستوى والتي تم تزويدها بأحدث وسائل التبريد لتفادي درجات الحرارة المرتفعة، وسائر المنشآت الأخرى. ونجحت في تنفيذ أعمال في غاية الدقة، كالمدينة الذكية التي تُعد الأولى في العالم العربي، حيث تزودها شركة تقنية عالمية بنسخة رقمية افتراضية لشبكة الطرق لتحديد مستوى الزحام والتكدسات أثناء المباريات واقتراح طرق بديلة مما يؤدي إلى مرور أكثر سلالة ووصول الجماهير إلى وجهاتها بأمان، تجنباً للزحام المروري وتنظيم حركة حافلات الفرق الرياضية والجماهير..
لقد قال رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) "جياني إنفانتينو": إن النسخة القطرية من المونديال ستكون الأفضل على الأطلاق، داخل الملعب وخارجه"، وهذا ما شاهدناه بالفعل..

وكما قلنا، إن التداخل بين السياسة والرياضة أمر قديم- جديد، فمثل هذه الاحتفالات الرياضية مثلما تقرب الشعوب بعضها من بعض، فهي أيضا تكون فرصة لتذويب الثلوج في العلاقات بين الدول بعضها ببعض، فقد شاهدنا مصافحة السيسي لأردوغان بعد خصام وقطيعة بينهما لما يقرب من العشر سنوات، ورأينا ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، يلف عنقه بالعلم القطري ويكون في طليعة الزائرين لقطر، موصياً، في ذات الوقت، أجهزة الدولة السعودية بدعم مونديال قطر، بينما غاب رئيس دولة الإمارات!!..

ان قطر تعيش مهرجاناً مكتمل الأوصاف، إنه يوم العرس العربي وليس القطري فحسب، فنجاح قطر هو نجاح لكل العرب، ليت الأنظمة العربية المتصهينة تفقه ذلك!

………

نقلا عن "عربي 21"