الحل السياسي للأزمة الاقتصادية.. لماذا يصر السيسي على وضع العربة أمام الحصان؟!

- ‎فيتقارير

يقف جنرال الانقلاب عبدالفتاح السيسي عاجزا أمام المشاكل الهائلة التي تسبب فيها؛ فالجنيه ينهار والغلاء يسحق عشرات الملايين من المصريين، والفقر يتزايد والجوع يتفشى والسلع الغذائية تختفي من الأسواق؛ وسط كل هذا الخراب  يستنكر السيسي على المصريين أن يجهروا بالشكوى من الجوع والفقر الذي ورطهم فيه! نعم يستكثر الجنرال على المصريين أن يئنوا من الجوع والفقر؛ فهو يريد منهم أن يموتوا جوعا  وفقرا ومرضا دون أن يصدر منهم  صوت يضج بالشكوى والأنين!

وسط هذه الأكوام من المشاكل لا يقدم الجنرال أي وعد بالإصلاح سوى كلمات بلهاء سخيفة عن الثقة بالله والثقة بالشعب المصري وأن الله لن يضيعنا! لكنه لا يقدم خطة واضحة للخروج من كل هذه المشاكل؛ فنبي الله يوسف عليه السلام عندما قال للملك {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، لم يكن يعتمد فقط على الثقة بالله، بل شرع على الفور في استصلاح المزيد من الأراضي، وبناء المخازن، وشق الترع (بحر يوسف من بني سويف حتى الفيوم) وأقام سد اللاهون لتخزين المياه وادخارها. وحول منخفض الفيوم من صحراء جرداء إلى جنة خضراء. بمعنى أنه وسع الرقعة الزراعية لمصر، وضاعف من إنتاجها، واستخدم وسائل زراعية جديدة لزيادة المحصول وتخزينه لسنوات (فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون)؛ حتى جعلها مركزا حضاريا وغذائيا للعالم القديم، وفد إليها كل الناس في سنوات الجفاف؛ فأمدتهم في تواضع  بما يحتاجون؛ فاستحقت عن جدارة أن تكون قبلة العالم القديم ومنارة الحضارات القديمة؛ فهذه النبل وتلك الإنسانية هي أعظم  من الأهرامات وكل الآثار والمعابد القديمة.

خلاصة تجربة مصر عبر القرون أن الحل للأزمة الاقتصادية هو حل سياسي بامتياز؛ أن يتركوا الشعب يختار حكامه بإرادته الحرة دون تزييف أو تزوير أو وصاية من الجيش أو غيره؛ دعوا الشعب يختار بحرية وهو من سيحل مشاكله بنفسه؛ ففسادكم هو من دمر مصر وخربها؛ فالإصلاح الاقتصادي في مصر مرهون بالإصلاح السياسي؛  وما دام الإصلاح السياسي جرى تجميده بفعل فاعل؛ فإن الإصلاح الاقتصادي يكاد يكون مستحيلا. تماما كالحصان والعربة؛ فالإصلاح السياسي هو الحصان، والإصلاح الاقتصادي هو العربة، وتقديم الإصلاح الاقتصادي على السياسي تماما كمن يضع العربة أمام الحصان؛ فهي لن تتحرك وسوف تعيق الحصان نفسه عن التحرك إلى الأمام وسيبقى الوضع مجمدا حتى يتعقل صانع القرار ويدرك أن المسار كله خطأ، أو يتم الإطاحة به والمجيء بنظام آخر أكثر حكمة ورشدا وكفاءة؛ فالطريق إلى إنقاذ البلاد لن يمر إلا عبر نسف المسار الحالي وإقامة نظام ديمقراطي تعددي لا يقصي أحدا، ولا يتصادم مع هويته الحضارية والإسلامية،  ويعيد السيادة للشعب بدلا من الأجهزة  الأمنية والعسكرية التي اغتصبت الدولة والسيادة وهمشت الشعب وسحقته تحت آلة القمع والطغيان سحقا غير مسبوق.

فالتجربة برهنت على أن الجنرال أهوج يفتقد إلى الحكمة والرشد ويفتقر إلى التوازن النفسي وتنعدم عنده الأولويات؛ فمصر تحتاج في المقام الأول إلى:

  • مشروع زراعي ضخم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء؛ لأن مصر تستورد  منذ عقود كث أكثر من 65% من غذائها؛ وهذا بحد ذاته أكبر تهديد للأمن القومي. فقد تراجع دور الزراعة من 65% إلى 17% بالناتج القومي. ووفقا للخبير الزراعي الدكتور نادر نور الدين فإن مصر تتربع على قمة الدول المستوردة للقمح بحجم 13.5 مليون طن سنويًا، ونُعتبر رابع أكبر مستورد للذرة الصفراء بنحو 10 ملايين طن سنويًا، وخامس أكبر مستورد لزيوت الطعام بنحو 3 ملايين طن سنويًا، ومعها 1.25 طن من السكر ونحو 50% من احتياجاتنا من اللحوم الحمراء والألبان المجففة، و100% من احتياجاتنا من العدس ونحو 80% من الفول.
  • كما تحتاج مصر بالتوازي مع المشروع الزراعي تنمية الثروة الحيوانية والسمكية والثروة الداجنة، والاهتمام بالصناعات الغذائية المصاحبة لها لتحقيق هذا الهدف الأعظم  مثل صناعة الزيوت والالبان والعلف وتحقيق الاكتفاء الذاتي لهذه المشروعات الضخمة من الحبوب والمحاصيل الاستراتيجية المهمة كالقمح والأرز والقطن والفول والعدس، وفول الصويا لصناعة العلف، وعباد الشمس والذرة والسمسم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزيوت. وهذا يتطلب أولا، حماية الرقعة الزراعية الموجودة من التآكل. وثانيا استصلاح ملايين الأفدنة، وثالثا وضع سياسية زراعية رشيدة والاعتماد على أفضل ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا الحديثة بهذا الشأن؛ وتعزيز صناعة الأسمدة النيتروجينية التي تزيد من خصوبة التربة وتزيد الإنتاج بمعدل نحو 30%.
  • كذلك يتعين ضبط السوق ليكون أكثر تنافسية حتى لا يتعرض المستهلكون لسيطرة قلة من المحتكرين. وهذا يستلزم تثبيت أسعار المنتجات الرئيسية والتى يستهلكها السواد الأعظم من الجمهور، لتحقيق المواءمة بين اعتبارات الربح من جانب المستثمرين وحق المواطن فى الحصول على السلعة بأسعار مناسبة، لا سيما وأن هامش الربح في السوق المصري مرتفع بصورة كبيرة، خاصة فى مجالات السلع الاستهلاكية والغذائية، والذى يتراوح بين 40% و75% فى حين لا يتجاوز نظيره بالأسواق العالمية 8% فقط.
  • في الملف الصناعي، مشكلة مصر اقتصادية قبل أن تكون مالية؛ والمطلوب فورا هو سياسات على المديين المتوسط والطويل، لدفع النمو الاقتصادي وتدعيم الاقتصاد وتحقيق التنمية، وعلى المدى القصير، للتصدى للمشكلة الخانقة الراهنة. وبالتالي فالمطلوب فورا  هو الحد من فاتورة الاستيراد والتخلي عن المواد الترفيهية التي تفاقم فاتورة الاستيراد ويتم أهدار  مليارات الدولارات عليها سنويا، مع التركيز على صناعات كثيفة العمالة وفي ذات الوقت يمكن أن توفر المليارات من العملة الصعبة. وخير مثال على ذلك قطاع النسيج و صناعة الملابس؛ وهما صناعتان بسيطتان، حيث بلغ نصيب مصر من صادرات الملابس فى العالم فى سنة 2019 %0,33 (أقل من نصف في المائة) قيمتها 3,5 مليار دولار. فى نفس السنة كان نصيب فيتنام %6 من الصادرات العالمية بلغت قيمتها 63 مليار دولار. وللتذكرة كانت فيتنام فى حرب مع الولايات المتحدة حتى سنة 1975، بينما دشنت مصر سياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة 1974. نحن لسنا فقط فى مواجهة مشكلة بل مسألة اقتصادية ممتدة. وفى سنة 2019، بلغت قيمة صادرات بنجلاديش من الملابس 34,1 مليار دولار بارتفاع قدره (58.6%) عن 2013 عندما كانت قيمة الصادرات 21,5 مليار. لاحظ أن هذا الارتفاع حدث خلال ست سنوات هى بالضبط نفس طول الفترة الفاصلة بين «الإصلاح الاقتصادى المصري» وقرض الصندوق لمصر فى سنة 2016، والوقت الحالى. والسياسة الصناعية لا تقتصر بالطبع على الملابس ذات القيمة المضافة المنخفضة عموما بل ينبغى أن تمتد إلى أفرع أخرى للنشاط مثل الإلكترونيات، والبرمجيات، والصناعات الكيماوية، والسياحة. ومضمون السياسة الصناعية فى هذه الأفرع لا بد أن يتباين حسب طبيعة كل منها. فالاهتمام بصناعة النسيج والملابس وحدها قد تدر على الاقتصاد المصري نحو 50 مليار دولار سنويا لو أحسن استثمارها ومصر كانت سباقة في هذا المجال منذ العهد الملكي.

هذه هي روشتة العلاج لكنها تبدأ بالحل السياسي فلا بد من وضع الحصان أمام العربة؛ وما دام السيسي باقيا على رأس السلطة، وما دام يكابر ويصر على مشروعاته العبثية التي يصر على وصفها بالقومية العملاقة فإن مصر ستبقى تنزف وتنهار ولا ندري إلى أي مدى سوف تبقى تنزف لأن صدى ذلك سيكون واسعا ومدمرا على المنطقة كلها وربما العالم كله.