في ذكرى استشهاده… هذه تفاصيل اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا

- ‎فيتقارير

تحل في 12 فبراير من كل عام ذكرى استشهاد الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية في مصر والعالم. الجريمة النكراء دبرها القصر  والإنجليز بهدف واحد هو القضاء على الدعوة وتهميش الروح الإسلامية العالية التي بثها الإمام الشهيد وجماعة الإخوان المسلمين.

وحسب الأستاذ  عبدالكريم منصور، صهر الإمام الشهيد والذي كان رفيقا له خلال الأيام الأخيرة من حياته؛ فإن الإنجليز حرضوا القصر وحكومة الأقلية برئاسة النقراشي باشا على التخلص من الأستاذ. وقد اتخذت الحكومة عدة إجراءات لتسهيل عملية الاغتيال أهمها اعتقال الإخوان عدا الإمام الشهيد وإيداعهم السجون. وـ سحب المسدس المرخص الخاص بالإمام الشهيد. وسحب الجندي المكلف بالحراسة علي منزل الإمام الشهيد، رغم أنه عرض عليهم التكفل براتبه، وكان جميع الزعماء توضع لهم حراسة خاصة. ثم اعتقال أخيه اليوزباشي عبد الباسط الذي أحس بالمؤامرة علي أخيه وجاء ليحرسه. وقطع خط التليفون حتى لا يتمكن من الاتصال بالخارج. واعتقال كل من ذهب لزيارة الإمام حسن البنا في هذه الفترة ، وإذا دخل الزائر ولم يُر اعتقل أثناء خروجه. واعتقال كل من يلقي السلام على البنا أثناء سيره بالطريق حتى لو لم يكن من الإخوان. وسحب السيارة الخاصة بالإمام الشهيد وكانت ملك صهره عبد الحكيم عابدين. وعدم السماح له بمغادرة القاهرة أو السفر إلي أي مكان. في ظل هذه الظروف كان الإمام البنا منشغلا  لأقصى حد بمفاوضات الصلح  مع الحكومة.

يقول منصور: «في يوم الاغتيال كلفني الإمام الشهيد حسن البنا قبل العصر بالذهاب إلي التليفونات الخارجية في السيدة للاتصال بالشيخ عبد الله النبراوي في بنها ، لكي أبلغه رغبة الإمام في الإقامة عنده في عزبته " أبعادية النبراوي " وكانت هذه العزبة محاطة برجال النبراوي وحراسه ، فلما تكلمت معه رد علي أهله وقالوا : لا داعي لحضور الإمام لأن البوليس جاءنا وضربنا ودمر أثاث المنزل وممتلكاتنا، واعتقل الشيخ عبد الله، وعدت إلي الإمام لأخبره بنتيجة المكالمة فقال إنه قد جاءه الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات، وإن بعض الشخصيات الحكومية ستحضر في جمعية الشبان المسلمين لهذا الغرض ، فأخبرت الإمام بأمر اعتقال الشيخ النبراوي، ورجوته عدم الذهاب إلي الشبان المسلمين، ولكنه رحمه الله صمم علي الذهاب قائلاً : إني وعدت ولا يجوز أن أخلف الميعاد.

ظهرت حقيقة الحادث بتفاصيله والذي تم في الساعة الثامنة والثلث من مساء يوم السبت 12 فبراير 1949م الموافق 14 ربيع الآخر في 1368هـ . يقول الأستاذ عبد الكريم منصور : " ذهبنا إلي جمعية الشبان المسلمين وقد أخبر الأستاذ البنا بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات وأن شخصيات حكومية ستحضر في جمعية الشبان لهذا الغرض ، وجلسنا في الجمعية ولم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء ، فقام الإمام الشهيد وصلي بالموجودين صلاة العشاء ، ثم جلسنا قليلاً بعدها ولم تحضر هذه الشخصية. وهنا طلب الإمام من الأستاذ محمد الليثي أن يستوقف تاكسي، وخرجنا من الجمعية إلي شارع رمسيس الذي كان مظلمًا وكانت الساعة تشير إلي الثامنة والثلث، ووقف التاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله ، ودخل الإمام الشهيد في المقعد الخلفي ودخلت بعده وجلست إلي يمينه، ثم نهض وأبدل المقاعد فجلس علي يميني وجلست علي يساره ، وفي هذه الأثناء كان يقف أمام السيارة شخصان فتقدم أحدهما وأراد فتح باب السيارة فأغلقته ، وحاول الفتح. وأنا أحاول الغلق مهدداً لي بمسدسه، وأخيراً فتح الباب وأطلق علي صدري الرصاص فتحولت إلي الجهة اليسرى فجاءت الرصاصة في مرفقي الأيمن، وأمسكت بيده التي فيها المسدس وحاولت بيدي الأخرى أن أنتزع منه المسدس فلم أجد ذراعي إلا معلقًا ، العضد هو الذي يتحرك فقط ، وهنا أطلق المجرم رصاصة أخرى اخترقت المثانة وشلت حركة الرجل اليسرى ، وهنا عجزت عن الحركة ، فتركني وتوجه إلي الإمام الشهيد وحاول فتح الباب ولم يستطع فأطلق الرصاص عليه ثم فتح الباب وظل يطلق الرصاص علي الإمام الشهيد وهو يتراجع وهنا قفز الإمام من السيارة وجري خلفه حوالي مائة متر إلا أن السيارة كانت تنتظره عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب، وعاد الإمام الشهيد وحملني وأجلسني في السيارة حيث كانت رجلي اليسرى خارج السيارة لا أستطيع تحريكها.

ونادي الإمام الأستاذ محمد الليثي وقال له رقم السيارة عندك " 9979" وجاء شخص آخر طويل القامة أسمر، وقال : هل أخذت رقم السيارة التي ارتكبت الحادث .. رقمها " 1179 " وانصرف. دخل الإمام البنا إلي جمعية الشبان المسلمين وطلب عربية إسعاف ولكنها تأخرت. وهنا كان الناس قد تجمعوا فطلبوا من سائق السيارة أن يوصلنا فرفض ولكنهم أرغموه علي ذلك فأوصلنا إلي الإسعاف. وأمام الإسعاف حملني الإمام الشهيد مرة أخرى من السيارة وأدخلني إلي الإسعاف وقبض حرس الإسعاف علي السائق الذي حاول الهرب.

وجاء طبيب الإسعاف ليسعف الإمام البنا الذي قال له : " أسعف الأستاذ عبد الكريم أولاً لأنه حالته خطيرة ، ورأى طبيب الإسعاف أن حالتي تستدعي نقلي إلي القصر العيني فنقلنا أنا والإمام الشهيد وأدخلونا إحدى الغرف ، وجلسنا فترة حتى اتصلوا بالطبيب المناوب في منزله في روكسي بمصر الجديدة ، واستدعوه من السينما المجاورة حيث كان يشاهد فيلمًا ، وركب سيارته وجاء إلي القصر العيني.

في هذه الأثناء دخل علينا الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك وقال صارخًا : " انتم لسه مامتوش يا مجرمين" ، وانصرف .. وهنا دخل الطبيب الذي أراد أن يسعف الإمام الشهيد أولاً ولكنه قال له " أسعف الأستاذ أولاً .. وأمر الطبيب أحد الممرضين بخلع ملابس الشهيد ولكنه نهض من علي السرير وخلعها بنفسه ، ولما أرادوا أخذ اسمي وعنواني قال لهم الإمام الشهيد : " اتركوا الأستاذ عبد الكريم لأن حالته خطيرة وأعطاهم الاسم والعنوان.

وهنا دخل الأميرالاي محمد وصفي مندوب الملك ثانية وقال للطبيب : أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا ، فقال له الدكتور: إن حالته ليست خطيرة ، وبعد ذلك فصلوا بيني وبين الإمام ووضعوني في غرفة مع أحد المرضي، ووضعوا الإمام في غرفة وحده. وعلمت فيما بعد أن الأميرالاي محمد وصفي أتي إلى المستشفى مندوبًا عن الملك وكان مكلفًا بالإجهاز علي حياة الإمام الشهيد ..إذ منع الطبيب من مواصلة العلاج وتركت دماء الإمام تنزف حتى صعدت روحه الطاهرة إلي بارئها تشكو ظلم الطواغيت.

 

جنازة تحت حراسة الأمن

اتخذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية قراراً عصبيًا بضرورة تشييع الجنازة مباشرة من مشرحة مستشفى قصر العيني ، حتى لا تتاح فرصة لتفاقم مشاعر الحزن والألم ، و تحسبًا لتدفق المشاعر وانفلات زمام الأمور. ولكن رجلاً طاعنًا في السن قد أحنى ظهره يبلغ من العمر سبعة وستين عامًا كاملة، عاريًا من كل حيلة أو وسيلة أمام اللواء أحمد طلعت يسأل – بإلحاح وبتوسل دون ملل – أن تشيع الجنازة من منزل الفقيد، إنه الشيخ " أحمد عبدالرحمن البنا " والد " حسن البنا " الذي زلزلت كلماته الملتاعة كيان اللواء المصمم علي إنفاذ أمر رؤسائه ، فوعد باستئذان المسئولين علي أن تشيع الجثة من غير مظاهرات. وأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا.

وحسب صحيفة "الكتلة" التي غطت تفاصيل الجنازة، والتي كان يرأسها مكرم عبيد باشا، في تقرير نشر بعد تسعة شهور كاملة من استشهاد الإمام بسبب الرقابة البوليسية. لقد وصفت الصحيفة ما حدث وكتبه مأمون الشناوي بدون توقيع في عدد 11 نوفمبر 1949م في عهد وزارة عبد الهادي. أتت الصحيفة بعناوين تكفي تلاوتها للعن الطغاة والمجرمين تقول:

" القبض علي المعزين، ومنع الصلاة علي جثمان الفقيد ، منع تلاوة القرآن الكريم علي روحه .."ثم نشرت الوصف التاريخي الآتي الذي استقته من الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا والد الشهيد. ونقلت جثة الفقيد إلي بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين ، وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون! وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ، ونزل الجند فأحاطوا بيت الإمام الفقيد ، ولم يتركوا ثقباً ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح.

أما الشيخ البنا ذلك الشيخ الهرم فلم ينؤ بها ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت في هذه الليلة النكباء ، فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها، وظل ساهراً تفجعه الأحزان منتظراً الفجر ليؤدي فريضة الله، ويقول له : سبحانك ، وعدالتك ياربي لقد قتلوا ولدي " .وتتابعت علي باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ الكبير الرحى. كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا في السجون، وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، ونشج الوالد المحطم بالبكاء فقالوا له : لا بكاء ولا عويل ، بل ولا مظاهر حداد ، ولنترك الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا والد الشيخ حسن يتم القصة : قال : " أبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة ، وقيل : إنهم لن يسلموا إلي جثته إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا بدون أي احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلي حمل الجثة من مستشفي قصر العيني إلي القبر ، واضطررت إزاء هذه الأوامر إلي أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة ، رغبة مني أن تصل جثة ولدي إلي بيته فألقي عليه نظرة أخيرة ، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلي البيت متسللين ، فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواي.

وظل حصار البوليس مضروباً حول البيت وحده ،  ، بل حول الجثة نفسها لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد.  وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن ، للدفن ، فإن أحداً من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول ، ثم أنزلت الجثة حيث وضعت في النعش ، وبقيت مشكلة من يحملها إلي مقرها الأخير. وطلبت إلي رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملوا النعش فرفضوا ، قلت لهم : ليس في البيت رجال ، فأجابوا : فليحمله النساء ! وخرج نعش الفقيد محمولاً علي أكتاف النساء. ومشت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله رصف برجال البوليس ، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط علي الظلم الذي احتل جانبي الطريق! وعندما وصلنا إلي جامع " قيسون " للصلاة علي جثمان الفقيد ، كان المسجد خالًيا حتى من الخدم ، وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلي بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة علي جثمان ولدي.

ووقفت أمام النعش أصلي فانهمرت دموعي  ولم تكن دموعًا بل كانت ابتهالات إلي السماء أن يدرك الله الناس برحمته. ومضي النعش إلي مدافن الإمام ، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي، وعندما عدنا إلي البيت الباكي الحزين، ومضي النهار وجاء الليل لم يحضر أحد من المعزين، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء ، فلم يستطيعوا العودة إلي بيوتهم ، فقد قبض عليهم ، وأودعوا المعتقلات ، إلا شخصًا واحداً هو مكرم عبيد باشا.  بدأ التحقيق في هذا الحادث بعد وقوعه بساعات وانتهي في 18 ديسمبر عام 1952م ، وقيد برقم 1701 جنايات عسكرية قصر النيل سنة 1952م.