في ابتذال مفهوم القوّة الناعمة

- ‎فيمقالات

لا مشكلة على الإطلاق في أن يجامل الفنان جمهورَه، حتى لو بالغ في ردّ التحية ووصل إلى حدود الانبطاح فرحًا بالتشجيع، لكن المشكلة تبدأ حين يتحوّل هذا الفنان إلى بائع متجوّل في حواري السلطة، سياسية كانت أم ثقافية، أم ترفيهية، ثم من حيث لا يشعر، مأخوذًا بنشوة النفاق الربحي، يهين جمهورًا لمصلحة جمهورٍ آخر، ويدوس على التاريخ وعلى منطق الأشياء.
هنا يتحوّل الفنان إلى مجرّد عود ثقاب يلقى بمهارة شديدة على غابات الشوفينية الجافّة فتشتعل معارك بين شعوب يتبادل كل طرفٍ فيها إلغاء الآخر ونفيه وإهانته، وكأن الحياة لا تستمرّ من دون ميكانيزمات الإزاحة والشطب، هذا كله فقط لأن فنانًا قرّر أن ينسلخ من وظيفته الحقيقية ويتحوّل إلى بوق، أو قرد يتقافز بين الأشجار.
لم يكن الجمهور السعودي هو المستهدف الأول بهذه الرشّة من عبارات النفاق الرخيص التي أطلقها المطرب المصري محمد فؤاد في أثناء إحيائه حفلًا نظّمته له السلطات الترفيهية في السعودية، بل كانت العملية برمتها موجّهة إلى أهل السلطة بالأساس "أنا بشكر الجمهور السعودي كله والقيادة السعودية والملهم الشاب اللي هيغير وجه الحياة الأمير محمد بن سلمان هكذا يكون الشباب اللي بجد".
هذا بيت القصيد "الملهم الشاب" ومن حوله من مسؤولين قال الفنان إنهم على استعداد لإنتاج أضخم فيلم سينمائي له. وكالعادة، تأتي النتائج كارثية على مستوى الشعوب، إذ تندلع معارك لا تتوقف، تتم تغذيتها باستمرار، عن الريادة والأسبقية والأكثر جدارة والأعلى خلقًا، وهي حرائق كان من الممكن تجنّبها لو أن كل فنان أو مثقف اكتفى بإبداعه، ونأى بنفسه عن ممارسة ألوان مقرفةٍ من النفاق السياسي، مخلصًا لكونه فنانًا أو مثقفًا، تاركًا وظيفة إعلانات البروباغاندا المدفوعه لأصحابها.
غنيّ عن القول إن الأوزان النسبية لأخلاق المجتمعات وثقافة الشعوب لا تحدّدها وصلة نفاق أو تطبيل يمارسها فنان أو مثقف أو سياسي في مناسباتٍ محدّدة، تكون مرتبطةً عادة بموقعه الجغرافي، ومن ثم فحكاية "السعودية فوق الجميع" والرد عليها بأن "مصر فوق الجميع" تدخل في سياق علامات الانهيار الحضاري والأخلاقي، إذ ليس إنسانيًا ولا أخلاقيًا أن يكون أحد فوق الجميع أصلًا، إلا في أذهان صناع الفاشية هنا وهناك.
ولذلك وغيره، يصير باعثًا على القرف أن يكون هذا الشخص الموصوف بأنه فنان أو مبدع مصدر فتنةٍ شعوبية، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون فيه الفن والإبداع من عناصر تقارب الشعوب وانفتاحها على فكرة التنوّع والتعدّد، غير أن المفترض شيء والحاصل شيء آخر، بالنظر إلى أن ما يطلق عليها "القوة الناعمة" لم تعد ناعمة، بل تحوّلت إلى أدوات للاستخدام السياسي على مستوى الداخل والخارج، إذ في الداخل تكون واحدةً من مبرّرات حالة القمع والقهر التي تفرضها سلطة مستبدّة على المجتمع كله، وفي الخارج تكون أحيانًا، بل غالبًا، محمّلة برسائل سياسية بين سلطتين تعطّلت بينهما لغة الكلام مؤقتًا. وفي هذه الحالة الأخيرة، لا تنبغي قراءة وصلات المديح والمغازلة الرخيصة على أنها فقط محض ثرثرةٍ ساذجةٍ أو عدم السيطرة على الألفاظ والعبارات.
في واقعة المطرب محمد فؤاد في السعودية، بالغت المواقع الصحافية المرتبطة بالسلطة في إبراز التصريحات التي أثارت غضبًا شعبيًا على نطاقٍ ملحوظ، لكن اللافت أن تتقدّم الفضائية الأكثر تعبيرًا عن السلطة في مصر بالشكر إلى السعودية على رعايتها الفن والفنانين المصريين، وهو كلامٌ رخيصٌ آخر لن يضيف للسعودية، بل سيفاقم حالة الاشتعال الشعبوي على مواقع التواصل الاجتماعي.
قلت سابقًا إنه في أزمنة ليست بعيدة كانت ما تسمّى القوة الناعمة تحاول قدر طاقتها أن تنتصر لكرامة المبدع وحرّيته إن مسّهما أحد بسوء، وتشكّل قوة ضغط معنوية وأخلاقية على السلطة حين تتهاون وتتخاذل وتتواطأ ضد أدبائها وفنانيها لاعتباراتٍ تخصّ العلاقات الدبلوماسية بين الأنظمة.
أما وقد تضاءلت الأوطان لما هو أصغر من حبيبات الأرز، فقد جرت عملية توظيف القوة الناعمة خوادم للسلطة وأصدقائها ورعاتها من المانحين والمانعين، حتى صارت كلّ مهمتها إحياء حفلات وكرنفالات بروباغندا أصحاب المنح والمنع.