ساري عرابي يكتب: حل الدولتين أم إبادة الشعب الفلسطيني؟!

- ‎فيمقالات

الحديث عن حلّ الدولتين في هذا الوقت بالذات أقرب إلى الإمعان في الإبادة المعنوية للفلسطينيين، لما يكتنزه هذا الحديث من دجل معجون بالاستخفاف والوقاحة، وذلك بقطع النظر عمّن يصدر هذا الحديث، لأنّ إرادة الإبادة للفلسطينيين تكاد تكون عامّة في الإقليم والعالم.

الإبادة كلمة مرعبة لا شك، لكن مستوياتها لا تقتصر على الإبادة البشرية بالسياسة الجارية الآن في قطاع غزّة. فيما يخصّ الإبادة الجارية في غزّة، يكفي النظر إلى حجم الدمار وأعداد الضحايا (شهداء وجرحى ومفقودين ونازحين)، للقول إنّ الحرب تقترب من أسلوب الإبادة النووية ولكن ببطء، فحتى كتابة هذه المقالة بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين المُعلن أكثر من 12 ألف فلسطيني، ولو قدرنا أعداد المفقودين، فإنّ العدد سيزيد على الـ15 ألفا، وذلك بالإضافة إلى 33 ألف جريح، وهذا العدد من شأنه أن يتأتى من قنبلة نووية صغيرة في تأثيرها الأوّل المباشر، مما يعني أنّ “إسرائيل” من الناحية الفعلية قد اقترفت هذه المقتلة المفتوحة بسلاح أشبه ما يكون بسلاح نووي مجزّأ، فليس مهمّا والحالة هذه؛ أنواع المقذوفات والأسلحة التي تستخدمها، لأنّ النتيجة النهائية من حيث أعداد الضحايا واحدة.

    حديث المتواطئين أثناء المذبحة المفتوحة عن حلّ الدولتين؛ ينبغي أن يعود بالسؤال إلى ما قبل الحرب والدمار الواسع الذي اجتاح غزّة الآن؛ إن كان قطاع غزّة أصلا وهو على حالته قبل الدمار يصلح بمساحته الصغيرة وظروفه البيئية القاسية أن يكون جزءا من دولة فلسطينية، جزؤها الآخر (الضفّة الغربية) ظلّت الهندسة الاستعمارية (الاستيطان وكلّ ما يتصل به من جدار وطرق وحواجز ومعسكرات.. الخ) تزحف فيه وتحاصر الوجود الفيزيائي للفلسطيني

بل إنّ نمط الإبادة الجاري بالأسلحة التقليدية وشبه التقليدية في السياق الغزّي الخاص، والفلسطيني العام؛ أسوأ، لأنّه مصحوب بسياسات التجويع والتعطيش، والتدمير الممنهج للحياة الحضرية كلّها وفي القلب منها المستشفيات والمدارس ودور العبادة، على مدار اللحظة وتحت رصد الكاميرات العالمية، وفي نهج من الاستباحة لكلّ ما لاكته الألسن وسالت به الأقلام من قوانين دولية وإنسانية، مما يعني إطباق العالم على الإبادة المتسمة بالتشفّي من الفلسطيني، مع ما يتجاوز العجز العربي إلى الرغبة المفضوحة للنظام الرسمي العربي بالخلاص من الفلسطينيين وإلى الأبد.

نهج الإبادة المادي هذا الجاري مضمّن أنماط الإبادة الأخرى ومستوياتها، المعنوية والسياسية، بناء على الإرادة المتجسدة في خطوات عملية خلال العقد الأخير لكلّ من الولايات المتحدة وقوى أساسية في الإقليم العربي، وبطبيعة الحال “إسرائيل”؛ ليكون الحديث الآن عن حل الدولتين أداة في الإبادة لكونها سخرية سادية سافرة؛ لا يشبهها شيء إلا قهقهة القَتَلة فوق أنّات ضحاياهم.

إنّ حديث المتواطئين أثناء المذبحة المفتوحة عن حلّ الدولتين؛ ينبغي أن يعود بالسؤال إلى ما قبل الحرب والدمار الواسع الذي اجتاح غزّة الآن؛ إن كان قطاع غزّة أصلا وهو على حالته قبل الدمار يصلح بمساحته الصغيرة وظروفه البيئية القاسية أن يكون جزءا من دولة فلسطينية، جزؤها الآخر (الضفّة الغربية) ظلّت الهندسة الاستعمارية (الاستيطان وكلّ ما يتصل به من جدار وطرق وحواجز ومعسكرات.. الخ) تزحف فيه وتحاصر الوجود الفيزيائي للفلسطيني، لا على مستوى التجمّع فحسب؛ بل حتى على مستوى الفرد، بحيث باتت الحياة نفسها فيه تتآكل باستمرار، فكيف بصلاحيته أن يكون دولة؟!

كامل الأراضي المحتلّة عام 1967 لا تصلح لأن تكون دولة بالمعنى الكامل للدولة حتى لو خلت من الاستيطان تماما، فكيف الآن والفلسطيني الذي يرغب بأن يأخذ نفسا من الهواء في خلاء أرضه قد لا يمكنه ذلك. وهذه ليست مبالغة، فالمجال الحيوي للأراضي داخل الضفة الغربية مصادر بالكامل، وثمة مناطق وشوارع لا يمكن للفلسطيني أن يقترب منها، بل الأراضي المملوكة لفلسطينيّ ما قد يُمنع من الوصول إليها أو قطف الزيتون فيها، بل أكثر من ذلك، ففي ظروف الحرب المعلنة هذه، لا على غزّة فقط، تُمنع العائلات الفلسطينية في القرى المتاخمة للمستوطنات من السهر على عتبات بيوتها!

أليس من قبيل السخرية السادية إذن، في سياق الإبادة المعنوية، الحديث عن حلّ الدولتين في الظرف الأكثر هدوءا من الظرف الراهن، فكيف إن رافق ظرف الإبادة الماديّة الراهن؟!

ما الذي أوصل الحال إلى ما هو عليه، بعدما قرّرت قيادة منظمة التحرير الانغماس الكامل في مشروع التسوية والتخلّي الصريح عن الكفاح المسلّح والاعتراف بـ”إسرائيل”؟! أليست السياسات الدولية والإقليمية، ومنها العربية، التي احترفت مدّ الحبل للإسرائيلي حتى آخره في مصادرة مجالات الوجود الفيزيائي للفلسطيني في الضفة، بحيث يغدو الحديث عن حلّ الدولتين شراء للوقت ومخادعة للفلسطيني إلى حين يُطْبق الاحتلال على الضفة الغربية، لينتهي مصير الفلسطيني بين ملحق أمني منزوع الكرامة مُستعبَد للإسرائيلي، وباحث عن هجرة إلى الخارج؟! وذلك في حين أن هذه القوى التي تمدّ الحبل للإسرائيلي تبتزّ الفلسطيني للمزيد من التنازلات.

ليست هذه نظرية مؤامرة، هذه حقائق؛ منها أنّ اتفاقيات التطبيع الأخيرة المسماة بـ”الإبراهيمية” ناجمة عن خطة ترامب المشهورة بـ”صفقة القرن”، هذه الخطّة تنصّ على إبقاء الوضع الفلسطيني القائم على ما هو عليه مع تسميته دولة، أي أنّها فقط تنتقل بالسلطة الفلسطينية إلى تسمية الدولة، مع بقاء الاحتلال (بقاء المستوطنات والمعسكرات والحواجز واستمرار الاحتلال في اقتحام المدن وتنفيذ العمليات الأمنية والاحتفاظ بالمعتقلين الفلسطينيين، فكيف بالقدس والحدود ومظاهر السيادة الأخرى). هذه الخطة التي تُجسد الإبادة السياسية والمعنوية للفلسطينيين على طريق الإبادة المادية بدفع الفلسطينيين للهجرة الطوعية؛ وافقت عليها فعليّا دول “الاتفاقات الإبراهيمية”، ولم تفعل شيئا لمعارضتها جدّيّا بقية الدول العربية.

ومن نافلة القول إنّ إدارة بايدن لم تتراجع عن خطوة جوهرية واحدة اتخذتها إدارة ترمب لتصفية القضية الفلسطينية، كالاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وضمّ الجولان، مما يعني أنّ هذا توجه المؤسسة الأمريكية لا إدارة بعينها، وأنّ ما فعلته إدارة ترامب كان فقط الذهاب المُستعجل إلى النقطة الأخيرة في هذه الطريق.

    أليس الحديث عن حلّ الدولتين أثناء الإبادة الماديّة هو ضرب من الإبادة المعنوية، في قلبها يأتي الاصطفاف الدعائي لدول عربية من خلال مؤسّساتها الإعلامية وذبابها الإلكتروني في خندق المجزرة الإسرائيلية، فضلا عن إمعان الحصار من مصر على عزّة؟! وإذا كان الحال على هذا النحو، هل يُسأل الفلسطيني عمّا يفعل طالما أنّه محاصر دائما بخطط الإبادة بأنماطها ومستوياتها كلّها؟

أخيرا، وفي إطار مفاوضات التطبيع السعودي الإسرائيلي برعاية إدارة بايدن، تحدث الأمير محمد بن سلمان عن تحسين ظروف حياة الفلسطينيين، وهذا تعبير عن الإبادة السياسية، فالفلسطيني لم يناضل هذه العقود كلّها لتحسين ظروفه الاقتصادية، وإلا لامتنع عن الكفاح واندمج في الاقتصاد الإسرائيلي ليحظى بوضع اقتصادي أفضل من كل قاطني المجال العربي برمّته، ولكن ما ناضل لأجله الفلسطيني هو التحرر الكامل والتجسيد الكامل لهويته القومية والسياسية.

بعض المصادر قالت إن المكوّن الفلسطيني في الصفقة السعودية/ الإسرائيلية، لم يزد على إبقاء الوضع الفلسطيني القائم على ما هو عليه مع إطلاق اسم الدولة على المناطق (أ) فقط، وبقاء بقية مناطق الضفّة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، والاتفاق على إدارة مشتركة للمسجد الأقصى سعودية، أردنية، إسرائيلية، فلسطينية، في اعتراف عربي وإسلامي لأوّل مرّة بحقّ يهودي في المسجد الأقصى.

إذن هل كان أحد بالفعل يريد دولة حقيقية للفلسطينيين ولو حتى على أرض محصورة (الضفة والقطاع) لا تكفي للنموّ البشري الطبيعي باحتياجاته الاقتصادية، أم كان الجميع يعمل على الإبادة السياسية للفلسطينيين؟! ولمّا كان الأمر كذلك، هل يُستغرب صمت الجميع، الذي هو فعل من التواطؤ، على الإبادة المادية في غزّة؟! وحينئذ أليس الحديث عن حلّ الدولتين أثناء الإبادة الماديّة هو ضرب من الإبادة المعنوية، في قلبها يأتي الاصطفاف الدعائي لدول عربية من خلال مؤسّساتها الإعلامية وذبابها الإلكتروني في خندق المجزرة الإسرائيلية، فضلا عن إمعان الحصار من مصر على غزّة؟! وإذا كان الحال على هذا النحو، هل يُسأل الفلسطيني عمّا يفعل طالما أنّه محاصر دائما بخطط الإبادة بأنماطها ومستوياتها كلّها؟!

………

نقلا عن “عربي 21”