القطاع الصناعي في زمن الانقلاب يواجه الكثير من الكوارث بسبب عدم الالتزام بمعايير السلامة والصحة المهنية وتدهور بيئات العمل، مما يعرض العمال لمخاطر صحية وحوادث متكررة كان آخرها وفاة ثلاثة عمال في مصنع غزل ونسيج بالمحلة الكبرى، نتيجة انفجار الغلايات.
وتتجاهل الجهات المسؤولة عن السلامة والصحة المهنية مراجعة إجراءات التفتيش على المنشآت الصناعية ومحاسبة المسؤولين عن الإهمال، وهو ما أدى إلى وقوع مئات الإصابات والوفيات في الفترة الأخيرة.
كان العام الماضي، قد شهد عددا من الحوادث للعمال نتيجة غياب تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية، ففي 25 فبراير 2024، أسفر حادث مأساوي عن غرق 10 عمال وإصابة 5 آخرين، كانوا في طريقهم صباحاً لعملهم بمشروع نهضة مصر بمحطة مياه الضبعية بمشروع الدلتا الجديدة، وقاموا بركوب معدية خشبية بالضفة الشرقية لنهر النيل بمنطقة عزبة ربيع بقرية نكلا شمال الجيزة.
وفي 21 مايو 2024، وقع حادث أسفر عن وفاة 16 فتاة، إثر سقوطهن من أعلى معدية لنقل السيارات عبر ضفتي الرياح البحيري بمنطقة أبو غالب في منشأة القناطر، كانت الفتيات في طريقهن مع أخريات إلى محل عملهن في موقف تصدير الفاكهة عندما وقع الحادث.
وفي 20 ديسمبر 2024، شهد مركز تلا بمحافظة المنوفية مصرع 6 عمال في بئر مياه صحي، تبين أنه حينما نزل أحد العمال إلى البئر لتنظيفه تعرض لحالة اختناق شديد، ونزل 5 من زملائه تباعًا، إلا أنهم تعرضوا جميعهم للاختناق ولفظوا أنفسهم الأخيرة نتيجة استنشاق الغازات السامة داخل البئر.
إهمال فاضح
في هذا السياق أكدت دار الخدمات النقابية والعمالية في تقرير بعنوان ”عمال في دوامة الأزمة.. تقرير حول انتهاكات الحريات النقابية لعام 2024″، أن الواقع أظهر بوضوح أن هناك إهمالًا فاضحًا من قبل الجهات المعنية في ضمان الأمن والسلامة للعمل، مشيرة إلى أنه في العديد من الحالات، يجبر العمال على العمل في ظروف بيئية غير صحية أو ملائمة مما يعرضهم لمخاطر صحية جسيمة، كما يواجه البعض منهم المخاطرة حتى في التنقل عبر طرق غير آمنة، ما يضاعف من معاناتهم ويعرض حياتهم للخطر.
وأوضح التقرير أنه رغم قوانين العمل التي تهدف إلى توفير بيئة آمنة للعمال، فإن هذه القوانين تظل حبرًا على ورق في ظل غياب الرقابة الفعالة والمستمرة موضحا أن النتيجة الحتمية لذلك هي أن العمال يظلون عرضة للكوارث الصحية والمهنية، وبعضهم يفقتد الأمان الذي يستحقونه ليس فقط في أماكن عملهم، بل حتى في الطرق التي يسلكونها.
ضغوط نفسية
من جانبه حذر الباحث العمالي حسن البربري من أن الضغوط النفسية التي يتعرض لها العامل نتيجة ظروف العمل الاقتصادية والاجتماعية قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة، ما يؤثر سلبًا على جميع عناصر العملية الإنتاجية.
وانتقد البربري في تصريحات صحفية قصور التشريعات الحالية، بما في ذلك قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، الذي يركز على الصحة البدنية دون الاهتمام بالصحة النفسية، موضحا أنه رغم أن هناك نحو 32 مادة تتعلق بالصحة والسلامة المهنية، إلا أن الاهتمام بالصحة النفسية يكاد يكون منعدمًا.
وقال: “لا يوجد اهتمام يذكر بالبُعد النفسي في السلامة والصحة المهنية، فالقوانين المصرية، سواء قانون العمل أو قانون التأمينات الاجتماعية أو قانون التأمين الصحي، لم تولِ أي اهتمام للجانب النفسي للعاملين، نتيجة لذلك، ظهرت حالات انتحار بين العمال بسبب الضغوط النفسية الشديدة، في ظل عدم وجود دعم نفسي أو صحي مناسب”.
وأوضح البربري أن بعض العمال يلجأون لتعاطي الأدوية غير المرخصة أحيانًا، ليتمكنوا من الاستمرار في أداء عملهم تحت الضغط الكبير، مشيرًا إلى أن إصابات العمل المنصوص عليها في قوانين التأمينات الاجتماعية لا تشمل الأمراض النفسية.
وكشف أنه رغم أن دولة العسكر أنشأت المجلس الاستشاري الأعلى للسلامة والصحة المهنية وأعلنت عن استراتيجية وطنية في هذا المجال، إلا أن هذه الكيانات لم يكن لها أي تأثير ملموس على حياة العمال، حيث لاتزال دولة العسكر تتعامل مع الصحة النفسية للعمال سلبيًا، فبدلًا من الاهتمام بهم وعلاجهم تركز على الجانب العقابي وفقًا لما أقر به قانون 73 لسنة 2021 المتعلق بتحليل المخدرات، والذي أدى إلى فصل عدد كبير من العمال، مشيرًا إلى أن هذا القانون تعامل مع المشاكل النفسية للعمال من منظور العقاب بدلاً من العلاج، مما ساهم في زيادة الأمراض النفسية والعقلية لدى العمال.
وأكد البربري أن فصل العمال بموجب قانون تعاطي المخدرات، أدى إلى فقدان عدد كبير منهم لوظائفهم، ما أثر سلبًا على أسرهم بشكل كبير، وأصبح هؤلاء العمال موصومين بتهمة تعاطي المخدرات، مما حرمهم من فرص عمل جديدة واستغلال خبراتهم في سوق العمل0
وأوضح أنه خلال العام الماضي، حاول جمع بيانات حول التأثيرات النفسية التي يعاني منها العمال، لكن ندرة البيانات المتاحة وصعوبة حصر الأمراض النفسية التي لا تُدرج ضمن إصابات العمل المعترف بها، جعلت الأمر صعبًا.
تطبيق القوانين
وقال كمال عباس المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية: إن “هناك نوعين من الحوادث التي يتعرض لها العمال، خارجية وداخلية، موضحا أن الحوادث الخارجية تشمل حوادث الأتوبيسات، مثل حادثة أتوبيسات المطرية-بورسعيد، والتي أودت بحياة حوالي 14 عاملا وعاملة”.
وأكد عباس في تصريحات صحفية أن المشكلة في هذه الحوادث تعود إلى أن الطرق والأتوبيسات غير مجهزة بشكل كافٍ بالإضافة إلى حوادث المعديات التي تتكرر سنويًا، والتي غالبًا ما تكون مخصصة لنقل البضائع والحيوانات، لكنها تُستخدم لنقل العمال، خاصة العمالة غير الرسمية مثل الأطفال والبنات الذين هم تحت سن العمل، مشيرًا إلى أن هذه الحوادث تعكس أزمة أكبر، حيث إن حكومة الانقلاب لديها استعداد لصرف الملايين على بناء الكباري، بينما لا يتم الاهتمام بتطوير المعديات وجعلها أكثر أمانًا.
وعن الحوادث الداخلية التي تحدث في المصانع، أوضح أنها تشمل الحرائق والانفجارات وتسرب الغاز وحوادث آلات الإنتاج وغيرها من الحوادث، مشددا على أن المشكلة ليست في غياب القوانين، فهناك قانون وهيئة مختصة بالسلامة والصحة المهنية، لكن المشكلة تكمن في عدم تطبيق هذه القوانين حيث هناك شركات ومصانع لا توفر أدوات السلامة والصحة المهنية.
واعتبر عباس أن الأزمة مزدوجة؛ من جهة، هناك تقصير من قبل إدارات المصانع والشركات في تطبيق معايير السلامة والصحة المهنية، ومن جهة أخرى، العمال أنفسهم لا يلتزمون أحيانًا بارتداء أدوات الحماية، مشيرًا إلى أن القانون ينص على إجراء فحوصات دورية على العمال، ولكنه ليس ملزمًا بالشكل الكافي، ورغم أن قانون العمل نص على ضمان السلامة والصحة المهنية، إلا أن هناك ضعفًا في إنفاذ هذا القانون.
وأشار إلى أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بما يُعرف بمصانع “بير السلم” أو المصانع غير المرخصة ضمن القطاع غير الرسمي، لأن هذا القطاع غير مراقب بالقدر الكافي، ولا نسمع عن الأزمات التي تحدث داخله إلا في حال وقوع حادثة كبيرة تؤدي إلى خسائر في الأرواح، مؤكدًا أن هناك حاجة ملحة للاهتمام بالسلامة والصحة المهنية، خاصة في مواجهة التلوث البيئي الناتج عن هذه المصانع، الذي يؤثر على العمال والسكان، في المقابل تظل وزارة البيئة بحكومة الانقلاب غائبة عن التدخل في هذه القضايا الحيوية.
