تواصل شركات كبرى عمليات التسجيل والبيع لبعض أصولها بالخارج هربا من أوضاع وقوانين السوق المحلية سيئة السمعة بنظام الانقلاب ، والاحتماء بقوانين وأسواق دولية أخرى تعتمد طريقة ما يعرف بنظام "الملاذات الضريبة"، أو "الأوفشور"، الذي يمنحها حماية قانونية ويسمح لها بتحويل أرباحها بالعملات الأجنبية مع تقديم إعفاءات ضريبة كبيرة.
و"الأوفشور"، مفردة تُطلق على حسابات تفتحها شركات محلية خارج حدود مقرها الأصلي بطريقة قانونية لتجنب دفع نسب ضرائب عالية في بلدها الأم، وهو النظام الرائج في "سويسرا"، و"كندا"، وجزر "كايمان"، والجزر "العذراء البريطانية" و"أيرلندا"، و"بنما"، و"جزر كوك"، و"اسكتلندا"، و"المملكة المتحدة"، و"جزر مارشال"، و"اليابان"، و"مكاو"، و"تاهيتي"، و"تايلاند"، و"الفيليبين".
وفي سبتمبر 2023، نقلت شركة الصناعات الغذائية العربية "دومتي" حصة مملوكة لعائلة "الدماطي" تمثل 24.61 بالمئة، لصالح شركة "International dairy investment"، المملوكة أيضا وبالكامل لعائلة الدماطي، والمسجلة بجزر الكايمن، الواقعة غرب "البحر الكاريبي"، والتي تعتبر مركزا استثماريا قليل الضرائب، وجاذبة لشركات "الأوفشور".
وفي ديسمبر 2022، أعلنت شركة النساجون الشرقيون عن عمليات بيع صوري ونقل لملكية "24.61 بالمئة" من أسهمها ببورصة مصر، لشركة إنجليزية، تحمل اسم " FYK LIMITED"، والمملوكة لياسمين وفريدة خميس، بقيمة 1.37 مليار جنيه.
تلك الدول تتسابق فيما بينها على تقديم قوانين وتسهيلات وسرية تامة للحسابات، ما يدفع شركات الدول الأخرى للجوء إليها هربا من قوانين تراها مجحفة بها في موطنها، كما أنه في نفس الوقت يمنح تلك الشركات فرصة التهرب الضريبي ببلادها ونقل الأموال من موطنها الأصلي، بحسب مراقبين.
وكشفت تسريبات ما يُعرف بـ"أوراق بنما"، و"أوراق الجنة"، و"أوراق باندورا"، والتي ركزت على أسرار مؤسسات مالية عالمية؛ بيانات مصرفية سويسرية عن نحو 30 ألف حساب سري لرجال أعمال وسياسيين، بينهم 5 لرؤساء دول وحكومات عرب، سابقين وحاليين.
التسريبات التي أعلنت عنها صحيفة "زود دويتشه" تسايتونغ الألمانية، فبراير 2022، أكدت أن حكاما وملوكا وعائلاتهم وسياسيين وأمنيين ورجال أعمال مقربين من أنظمة في مصر وليبيا والجزائر والمغرب وسوريا والأردن واليمن، خبأوا المليارات قبل وبعد ثورات الربيع العربي في "كريدي سويس"، ثاني أكبر بنك سويسري.
وكان رجل الأعمال المصري الأمريكي محمود وهبة، قد نشر في 4 / يناير 2023، أسماء وعناوين 356 شركة مصرية لها حسابات سرية بالخارج عبر شركات "الأوفشور" الوهمية أو "الملاذات الضريبية"، فيما تقدم ببلاغ للنائب العام بسلطة الانقلاب للتحقيق مع تلك الشركات، ووقف عمليات تهريب للأموال من مصر.
وفي المقابل، يرى مراقبون أن السياسات الاقتصادية الخاطئة لنظام المنقلب السفيه السيسي، على مدار أكثر من 11 سنة، إلى جانب سيطرة شركات الجيش والمؤسسات السيادية على أغلب القطاعات، والإجراءات الاستبدادية والتعامل الأمني الخشن مع بعض أصحاب رؤوس الأموال المصريين، أدت إلى هروب بعض رجال الأعمال باستثماراتهم إلى تلك الملاذات الآمنة.
وأكدوا أن بعض رجال الأعمال المتورطون في الأمر وفي صناعة أزمة الدولار، ملمحين إلى دور تغول اقتصاد الجيش على القطاع الخاص في لجوء رجال الأعمال لتلك الحيل.
مخاوف وأطماع
وقال الخبير الاقتصادي مصطفى يوسف: "أتذكر في نهاية 2022، تخارج سيدتي الأعمال ياسمين وفريدة ابنتي محمد خميس، وتوجه رجال أعمال للتخارج محليا وإعادة هيكلة شركاتهم وتمليكها ومحافظهم الخاصة لشركات أوفشور بدول تقدم الملاذات الضريبية الآمنة مثل جزر كايمان، وجزر فيرجن، ولكسمبروغ، ليختنشتاين، وغيرها".
الباحث في الاقتصاد السياسي والتنمية والعلاقات الدولية، أكد أن "رجال الأعمال في مصر يلجأون لتلك الإجراءات خوفا من استيلاء جهات سيادية مصرية على شركاتهم، كما حدث لصاحب شركة (جهينة)، صفوان ثابت".
ولفت إلى أنهم "في نفس الوقت لا يريدون دفع ضرائب، لأنه يتم إجبارهم لدفع إتاوات إلى (صندوق تحيا مصر)، فيحاولون ما بين التهرب من الضرائب وحماية لاستثماراتهم من التغول عليها أو فرض شراكات عليهم من شخصيات مقربة من السلطة مثل رجل الأعمال الصاعد بقوة إبراهيم العرجاني، وإجبارهم على تبرعات أكثر".
ويرى أن "محاولاتهم حماية شركاتهم وعدم رغبتهم دفع الضرائب والخوف الشديد من سيطرة المؤسسات السيادية، يأتي في ظل تغييب الجهات الرقابية بالمعنى المفهوم عن أدوارها، مع نظام سلطوي، رأس النظام ودائرة محيطة تشرع وتقرر، فلا برلمان ولا إعلام حر".
وأوضح أنه "بمنطق رجال الأعمال؛ مفهوم أنهم خائفون، ومفهوم رغبتهم في إخراج أموالهم للخارج، ومفهوم أن توسع الجيش في الاستثمار والاقتصاد يخوفهم"، مؤكدا أن "هذا ليس سببا لما يحدث ولكنه نتيجة لما يجري من سياسات".
وأشار إلى أن "تغول الجيش على القطاع الخاص وصل حد تملكه فوق 77 أو 78 بالمئة من الاقتصاد ويمكن 80 بالمئة منه، ما يقابله على الجانب الآخر بيع الشركات العامة والأراضي الاستراتيجية والبنوك الحكومية وآخرها (بنك القاهرة)".
"وفي صفقات تباع أغلبها لجهة واحدة هي الإمارات، وبالأمر المباشر، مثل أرض (رأس الحكمة) و(بنك القاهرة)، والقطاع الطبي والمستشفيات والمختبرات ومعامل التحليل، والشركات الرابحة والفنادق والموانئ وغيرها"، وفق تأكيده.
بنات فريد خميس و"الدماطي"
ويرى يوسف، أن "ما فعلته بنات فريد خميس وبعدهما شركة الدماطي، وغيرهم، كان نوعا من أنواع الذكاء للحفاظ على أموالهم"، ملمحا إلى أنه "في مصر تعطي الدولة المستثمرين في أذون الخزانة وأصحاب الأموال الساخنة أعلى عوائد في العالم، فلماذا لا يقوم بعض رجال الأعمال المصريين بالتفاف على هذا الأمر".
وقال إن "العيب هنا ليس فيهم، ولكن العيب أنه لم يعد هناك مجال للاستثمار، وأن حكومة كاملة ودولة كاملة تقوم على اقتصاد في غرفة الإنعاش، حيث لا اقتصاد ولا استثمار، ليس لديك رؤية استثمارية ولا رغبة أو رؤية سياسية لخروج الجيش من الاستثمار والاقتصاد، ولا إرادة سياسية لتداول السلطة".
"وتريد أن تكمل بهذا النظام القائم رغم أنه ينهار اقتصاديا وقدرته تقوم حتى الآن عبر بيع أصول الدولة للإمارات والسعودية، وعن طريق دعم إسرائيل وتنفيذ الأجندة الأمريكية بالمنطقة"، وفق قول يوسف.
وأكد أنه "في المقابل، لا يوجد مستثمر يريد الاستثمار على المدى الطويل يمكنه الاستثمار ولا يوجد غير حكاية الأموال الساخنة؛ ورجال الأعمال المحليين يشعرون أن الاقتصاد لن يكمل بهذه الطريقة".
وأضاف: "وعلموا أن العمل فقط تحت إدارة الجيش، وعندها تأخذ أموالك، ويمكنك أن تخرج بها للخارج، وعلى المدى القصير يمكنك الاستثمار في أذون الخزانة قصيرة الأجل من 3 أو 6 أو 9 شهور أو سنة، فيخرجونها ثم يعودوا بها مجددا عبر أذون الخزانة ثم يسحبونها بأي وقت، وتكون معفاة من الضرائب ولا يمكن لأحد وضع يده عليها أو مصادرتها أو الاقتطاع منها".
