في مشهد يُجسد ازدواجية المعايير الدولية، بالذكرى ال12 للانقلاب العسكرى فى مصر اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الثلاثاء، التقرير النهائي للاستعراض الدوري الشامل لسجل حقوق الإنسان في مصر، وسط انتقادات حقوقية واسعة واتهامات للحكومة بتقديم صورة "وهمية" عن الواقع الحقوقي المتدهور تحت حكم عبد الفتاح السيسي.
ورغم الكم الهائل من الانتهاكات التي وثقتها منظمات دولية ومحلية خلال السنوات الماضية – من تعذيب ممنهج، واختفاء قسري، وقمع سياسي، وسجن عشرات الآلاف من المعارضين والصحفيين – لم يجد المجتمع الدولي حرجًا في تمرير التقرير، مكافأةً ضمنية لدور النظام المصري في حصار غزة، وتضييق الخناق على المهاجرين، وتقديم خدمات أمنية للغرب، مقابل صمت مطبق على تدهور الحريات الأساسية في البلاد.
تقرير مزخرف.. وواقع مرعب
ففي الجلسة التي عقدها المجلس بجنيف، أعلنت الحكومة المصرية قبولها 281 توصية من أصل 343 توصية قدمتها الدول الأعضاء، مدعية تنفيذ 45 منها بالفعل، بحسب ما أعلنه السفير علاء حجازي، الممثل الدائم لمصر في الأمم المتحدة. لكن هذه الادعاءات قوبلت بتفنيد مباشر من حسام بهجت، مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الذي وصف خطاب الحكومة بأنه "رواية من واقع موازٍ".
بهجت أكد أن المصريين لا يعيشون في تلك الدولة الخيالية التي تزعم حكومتهم أنها تكفل حرية التعبير، وتحمي المدافعين عن حقوق الإنسان، وتجرّم العنف ضد المرأة، وتلاحق مرتكبي التعذيب. بل أشار إلى تناقض فجٍّ حين تزعم السلطات أنه لا يوجد سجناء سياسيون، بينما أنشأت لجنة للعفو الرئاسي لإعادة النظر في ملفات عشرات الآلاف من المعتقلين بتهم سياسية!
الصحافة تُدفن خلف القضبان
وفيما تتشدق الدولة بـ"حرية الإعلام"، تصنَّف مصر في المرتبة السادسة عالميًا من حيث عدد الصحفيين المسجونين، إذ يقبع 24 صحفيًا خلف القضبان، بينهم رسام الكاريكاتير أشرف عمر، المعتقل منذ يوليو 2024 بسبب رسوم ساخرة. أما نقابة الصحفيين، فلا تزال تطالب بلا جدوى بالإفراج عن المحبوسين احتياطيًا لمجرد آرائهم، في بلد يحكم فيه بالقمع وتكميم الأفواه.
انتهاكات ممنهجة.. وأقليات مضطهدة
الجامعة البهائية العالمية، بدورها، كشفت أن الحكومة المصرية تمارس تمييزًا ممنهجًا ضد البهائيين، وتحرمهم من أبسط حقوقهم المدنية، بما في ذلك الزواج والتعليم والتطعيمات والمقابر الخاصة. بل إن أمًا بهائية تواجه خطر الترحيل والانفصال عن أطفالها، في دلالة جديدة على عجز الدولة عن احترام أبسط معايير المساواة.
تجميل قبيح للاستبداد
ورغم الإشارات المتكررة إلى الإصلاح، من قبيل إنشاء "مراكز إصلاح وتأهيل"، أو تقليص "التنفيذ الفعلي" لأحكام الإعدام، يبقى الواقع أن السجون المصرية تعجّ بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، في ظروف احتجاز مهينة، وبلا محاكمات عادلة. أما "الفصل بين السلطات" واستقلال القضاء، فلا يعدو كونه غطاءً دستورياً لشرعنة القمع الأمني.
وحتى المجلس القومي لحقوق الإنسان، التابع للنظام نفسه، أقرّ ضمنيًا بفداحة الوضع، عندما دعا إلى تقليص مدد الحبس الاحتياطي ومراجعة قوانين العقوبات وتعزيز حرية الإعلام – وهي مطالب لا تجد طريقها إلى التنفيذ، بل تُضاف إلى قائمة طويلة من التوصيات التي ينساها النظام فور خروجه من قاعة المجلس الدولي.
تصدير الأوهام مقابل الصمت الدولي
وبينما يشيد ممثلو الحكومة بـ"الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، ويعدّون بتمديدها حتى 2030، لا تزال عشرات المواقع الإلكترونية محجوبة، ومنها موقع "المنصة" الذي أُغلق أكثر من 13 مرة، لمجرد نقل الحقيقة.
الواقع أن هذا النظام يستمر في ارتكاب الانتهاكات بلا حسيب أو رقيب، لأنه ببساطة يخدم الأجندات الغربية: فهو يغلق معبر رفح ويشارك في حصار غزة، ويردع الهجرة نحو أوروبا، ويفتح البلاد أمام الاستثمارات المشروطة سياسيًا. وهي خدمات لا يُقدرها الغرب فحسب، بل يكافئه عليها بمنحه الشرعية في محافل حقوق الإنسان.
"الواقع الموازي" ليس مجرد عنوان
في تقريرها الذي حمل عنوان "الواقع الموازي"، قدمت المبادرة المصرية خمس تقارير فضحت الانتهاكات المنهجية داخل منظومة العدالة الجنائية، واستخدام قوانين الإرهاب ضد النشطاء، والتضييق على النساء، وانتهاك الحريات الرقمية. ولكن، كما جرت العادة، سقطت تلك التقارير في أذن صمّاء، وصمت دولي بات جزءًا من المشكلة، لا من الحل.
ختامًا:
لا يبدو أن تمرير التقرير الحقوقي الأممي عن مصر سيحمل أي تغيير جذري في المشهد الحقوقي، بقدر ما يمنح النظام العسكري في القاهرة مزيدًا من الغطاء للاستمرار في قمعه وتزييفه للواقع. فبينما يُسجن المعارضون، ويُلاحق الصحفيون، ويُختطف المواطنون قسرًا، تُوزَّع الشهادات الدولية على نظام لا يعرف من "حقوق الإنسان" إلا ما يُسوّقه إعلامه الأمني.