الدرس الماليزي لمصر ..”مهاتيرمحمد.”الطبيب الذي صنع نهضة بلاده و”السيسى” الجنرال الذي باع وطنه ؟!

- ‎فيتقارير

 

في 10 يوليو الجاري، أطفأ مهندس النهضة الماليزية مهاتير محمد شمعته المئة، محتفلاً بقرن من العمر ترك خلاله بصمة استثنائية في تاريخ بلاده والعالم. الرجل الذي خرج من بيت متواضع في ولاية قدح، نجح خلال عقود حكمه أن يقود ماليزيا من دولة زراعية فقيرة إلى واحد من نمور آسيا الاقتصادية، واضعًا التعليم والبحث العلمي في قلب مشروعه الوطني.

 

في المقابل، تعيش مصر تحت حكم  المنقلب السفاح عبد الفتاح السيسي مأساة دولة عسكرية أهدرت كل مقومات النهوض، بعد أن أطاح بأول رئيس مدني منتخب، الشهيد محمد مرسي، وهو أستاذ جامعي وعالم بمجاله، ليحكمها الجنرال الذي اشتهر بمقولته الكارثية: “ينفع إيه التعليم في بلد ضايع؟”

 

فأين تقف ماليزيا اليوم بفضل رؤية مهاتير؟ ولماذا غرقت مصر في الديون والانهيار رغم ما تمتلكه من مقومات تاريخية وجغرافية وبشرية؟

 

الطبيب الذي صنع معجزة آسيا

ولد مهاتير محمد في 10 يوليو 1925، لعائلة فقيرة نسبيًا، في مدينة ألور ستار. درس الطب بجامعة الملايا في سنغافورة وتخرج عام 1953، لكنه سرعان ما ترك الممارسة الطبية ليغوص في العمل السياسي، مؤمنًا أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الدولة لا من العيادة.

 

حين تولى رئاسة الوزراء عام 1981، كانت ماليزيا دولة نامية تعتمد على تصدير المطاط والقصدير وزيت النخيل، بقاعدة صناعية ضعيفة وتعليم متخلف. جعل مهاتير مشروعه الأساسي هو النهوض بالتعليم والبحث العلمي، باعتبارهما محركين لأي نهضة اقتصادية، فأطلق برامج لتحديث المناهج، وإرسال آلاف الطلاب للدراسة في اليابان وكوريا الجنوبية، وتأسيس الجامعات والمعاهد التقنية المتخصصة.

سياسة “التوجه شرقًا” التي تبناها عززت علاقات كوالالمبور بالقوى الصناعية الصاعدة في آسيا، لا سيما اليابان وكوريا الجنوبية، واستفاد من خبراتهما في بناء اقتصاد صناعي وتقني وتقليل الاعتماد على الغرب.

 

التعليم أساس النهضة

خلال حكم مهاتير، ارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة إلى أكثر من 94%، وازدادت أعداد الجامعات ومراكز البحث العلمي، وأصبحت ماليزيا مركزًا إقليميًا للتعليم العالي، يستقطب الطلاب من أنحاء آسيا وإفريقيا.

 

الأهم، أنه أسس مشروع “السيارة الوطنية بروتون” بالتعاون مع ميتسوبيشي اليابانية، كخطوة أولى نحو بناء قاعدة صناعية متكاملة، وافتتح مشاريع بنية تحتية عملاقة مثل مطار كوالالمبور الدولي، والعاصمة الإدارية بوتراجايا، وبرجي بتروناس التوأمين اللذين تحولا إلى أيقونة عالمية.

 

في أوج الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، رفض مهاتير الانصياع لشروط صندوق النقد الدولي، ولم يغرق بلاده في الديون، بل اعتمد سياسات رقابية جريئة أنقذت الاقتصاد الوطني، خلافًا لما حدث لاحقًا في دول أخرى كإندونيسيا وتايلاند.

 

على النقيض: جمهورية العسكر في مصر

بينما بنت ماليزيا نهضتها على التعليم، سارت مصر في الاتجاه المعاكس، لا سيما منذ انقلاب يوليو 2013 الذي جاء بالسيسي إلى السلطة. الجنرال القادم من المؤسسة العسكرية، أطلق عبارته الشهيرة “ينفع إيه التعليم في بلد ضايع؟” لتلخص عقيدة نظامه تجاه المعرفة والعلم.

 

في زمن السيسي، تعرض التعليم في مصر لتدهور غير مسبوق، مع انخفاض ميزانيته لصالح الإنفاق العسكري، وغياب أي رؤية حقيقية للنهوض بالبحث العلمي. الجامعات أصبحت بيئة طاردة للعقول، ما دفع آلاف الأكاديميين والعلماء للهجرة، بينما أسندت المناصب القيادية لضباط جيش ذوي تعليم متواضع، حولوا الوزارات والهيئات إلى ثكنات مغلقة أمام الكفاءات المدنية.

 

الاقتصاد بين التعليم والعسكرة

ماليزيا اليوم دولة صناعية كبرى، تعتمد على الإلكترونيات، وصناعة السيارات، والسياحة عالية الجودة، بينما ترزح مصر تحت عبء ديون خارجية تتجاوز 165 مليار دولار، وفق تقديرات حديثة، مع انهيار الجنيه المصري، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

 

لم يهتم السيسي بتطوير الصناعة أو الزراعة، بل ركز على مشروعات شكلية مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وقصور رئاسية فاخرة، بينما ترك التعليم والصحة والبنية الأساسية تتآكل ولعل ما حدث فى سنترال فى حريق سننترال رمسيس مؤخرا  وتوقف الخدمات المصرفية وخدمات الإسعاف والانترنت يؤكد ذلك .

 

مرسي مقابل السيسي: عالم يُغتال وجنرال يُقدَّم

من المفارقات أن الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي كان أستاذًا جامعيا في الهندسة وعالمًا في علوم المواد، وله عشرات الأبحاث العلمية المحكمة، لكن المجلس العسكري بقيادة طنطاوي رفض استمرار حكمه، وتآمر لإطاحته، واحتجزه حتى وفاته في ظروف مأساوية داخل السجن.

 

بالمقابل، صعد السيسي إلى الحكم من بوابة الجيش، رغم كونه الأقل كفاءة بين دفعاته العسكرية بحسب شهادات منشورة، وتفرد بالسلطة عبر القمع والسيطرة المطلقة على الدولة، مستخدمًا الأجهزة الأمنية والعسكرية لتأمين حكمه على حساب أي مشروع نهضوي.

 

مفارقة الأجيال: مهاتير في الـ100 والسيسي في الـ70

في عامه المئة، لا يزال مهاتير محمد حاضرًا في المشهد السياسي الماليزي، رغم الانتقادات التي توجه له بخصوص المحسوبيات والنزعة القومية الملايوية، إلا أن إرثه الاقتصادي والتعليمي يبقى ماثلاً في كل تفاصيل الحياة الماليزية.

 

أما السيسي، الذي بلغ السبعين ، فقد ترك وراءه دولة شبه منهارة اقتصاديًا، مع مؤشرات على إفلاس محتمل، وتراجع غير مسبوق في جميع مؤشرات التنمية البشرية، وأصبح يترقب انفجارًا شعبيًا جديدًا قد يعصف بنظامه.

 

الدرس الماليزي لمصر

القصة الماليزية تقدم درسًا بليغًا لمصر والدول العربية: التعليم والبحث العلمي ليسا ترفًا بل ضرورة وجودية. ومعادلة التنمية تبدأ من وضع الكفاءات العلمية في موضع القيادة، بدلًا من إقصائها لصالح ضباط لا يملكون سوى خلفية عسكرية.

 

مهاتير محمد ربما يواجه انتقادات داخلية، لكنه يظل “الأب المؤسس” لماليزيا الحديثة، في حين سيذكر التاريخ السيسي كجنرال أهدر فرصة تاريخية للنهوض بمصر، وأدخلها في نفق مظلم من التبعية الاقتصادية والسياسية.