بينما يواصل نظام المنقلب العميل عبد الفتاح السيسي نسج خيوط تبعيته لإسرائيل في ملفات إقليمية حساسة، برزت في الآونة الأخيرة ملامح قلق غير معلن في القاهرة حيال ما يُعرف بـ"خريطة إعادة التموضع" الإسرائيلية في قطاع غزة. هذا التحفظ المفاجئ يطرح سؤالاً محورياً: لماذا ترتبك القاهرة أمام مخطط صاغته حليفتها تل أبيب، رغم سنوات من التعاون الأمني والسياسي؟ وهل يعود ذلك فقط إلى المخاوف الأمنية والديموغرافية، أم أن هناك أصواتاً وطنية باقية في الجيش المصري ترفض الانصياع لسيناريو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء؟
خريطة التهجير… قنبلة موقوتة على حدود مصر
الخريطة الإسرائيلية المسربة، والتي يجري التفاوض بشأنها في الدوحة، تكشف عن نوايا تل أبيب لإبقاء سيطرتها العسكرية على نحو 40% من قطاع غزة، ودفع مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين إلى التكدس على شريط ضيق قرب الحدود المصرية. هذه الهندسة الديموغرافية الجديدة تعني عملياً نقل الأزمة إلى بوابة مصر الشرقية، وتهديد سيناء بموجة نزوح جماعي قد تقلب معادلات الأمن القومي رأساً على عقب.
وفق مصادر مصرية مطلعة، ينظر بعض المسؤولين العسكريين إلى المخطط باعتباره تجاوزاً خطيراً لـ"الخطوط الحمراء" التي رسختها اتفاقية كامب ديفيد، والتي قامت على ضمان استقرار حدود مصر الشرقية ومنع أي تغيير جيوسياسي يضع القاهرة في مرمى نيران الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
صمت رسمي… وقلق داخل المؤسسات
حتى الآن، امتنعت القاهرة عن إصدار أي موقف علني حاد ضد الخطة الإسرائيلية، مفضلةً ما يسميه مراقبون "شراء الوقت" للحفاظ على قنوات التفاوض مع واشنطن وتل أبيب. لكن خلف الأبواب المغلقة، يسود توتر متزايد داخل بعض دوائر الدولة، ليس فقط بسبب المخاطر الأمنية، بل أيضاً بسبب إدراك أن تحمل تبعات التهجير قد يؤدي إلى انفجار شعبي في سيناء، حيث سبق وأن واجه الجيش المصري موجات مقاومة مسلحة منذ الانقلاب العسكري في 2013.
مصادر مقربة من المؤسسة العسكرية أشارت إلى وجود "تحفظات صامتة" لدى بعض القيادات الوسيطة والقديمة، ممن يرون في الخطة الإسرائيلية تهديداً مباشراً لسيادة مصر وكرامتها الوطنية. هذه العناصر، وإن كانت محدودة النفوذ في ظل إحكام قبضة السيسي على الجيش، إلا أنها لا تزال تعكس بقايا عقيدة وطنية تعتبر سيناء "خط الدفاع الأول" عن البلاد، وترفض أي "صفقة" قد تحولها إلى مخيم لجوء دائم.
السيسي بين مطرقة واشنطن وسندان الجيش
ورغم أن السيسي يُعرف بتماهيه شبه الكامل مع المصالح الإسرائيلية والأميركية منذ صعوده للسلطة، إلا أن الأزمة الراهنة تضعه أمام معادلة شديدة التعقيد:
الخضوع لرؤية نتنياهو سيعني عملياً موافقته على "تصفية" القضية الفلسطينية على حساب سيناء.
أما الرفض العلني فقد يضع نظامه في مواجهة مع داعميه الدوليين ويكشف هشاشته الداخلية أمام الشعب المصري وأمام تيارات قومية داخل الجيش.
سيناريوهات القاهرة: مناورة أم مواجهة؟
في ظل هذه المعطيات، يرجح مراقبون أن القاهرة ستلجأ إلى:
تعزيز وجودها العسكري والاستخباري على الحدود مع غزة لتوجيه رسالة مزدوجة لإسرائيل والفلسطينيين.
التلويح بأزمة إنسانية قد تعصف بالمنطقة كلها إذا حدث التهجير القسري، لتأليب المجتمع الدولي على الخطة الإسرائيلية.
طرح مبادرات سياسية بديلة عبر الرباعية الدولية، لإبقاء دور مصر كوسيط إقليمي وضامن "للاستقرار" المزعوم.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل تكفي هذه المناورات لحماية سيناء من سيناريو "الوطن البديل" الذي لطالما تردد في الغرف المغلقة؟
رفض مكتوم داخل الجيش؟
مصادر غير رسمية تحدثت عن "همس متصاعد" داخل بعض أوساط الجيش المصري بشأن خطورة تحويل سيناء إلى مخيم لاجئين، معتبرين ذلك إهانة لتضحيات آلاف الجنود الذين دفعوا حياتهم في حروب سابقة لاستردادها من الاحتلال الإسرائيلي. هذه الأصوات، وإن كانت محاصرة في مناخ الخوف والرقابة الذي يفرضه السيسي، قد تمثل أحد أسباب تريث القاهرة وعدم انخراطها حتى الآن في دعم الخطة الإسرائيلية بشكل علني.
القاهرة في مأزق وجودي
بين ضغوط واشنطن وتل أبيب، وصدى التحذيرات الوطنية داخل مؤسساتها، تبدو مصر أمام لحظة حاسمة. استمرار الصمت قد يعني انزلاقها إلى مستنقع تهجير فلسطيني يهدد تماسكها الداخلي، بينما المواجهة قد تكشف ضعف النظام الذي رهن سيادته منذ الانقلاب.
إنها معادلة معقدة لا يمكن للسيسي، مهما كان ولاؤه لإسرائيل، أن يحلها بسهولة دون أن يدفع ثمناً سياسياً أو شعبياً باهظاً.