في مشهد اقتصادي عبثي يتكرر، شهد الجنيه المصري تحسنًا طفيفًا أمام الدولار بنسبة 2.5% منذ مطلع يوليو، ما دفع حكومة الانقلاب للترويج لما وصفته بـ"صحوة اقتصادية"، واعدة بخفض الأسعار وكبح التضخم. إلا أن الواقع الصادم كان معاكسًا؛ فبدلاً من أن تنخفض الأسعار، تفاقمت موجات الغلاء، لتؤكد من جديد فشل سياسات نظام المنقلب عبد الفتاح السيسي في إدارة الملف الاقتصادي، وعجزه عن ترجمة أي تحسن نقدي إلى مكاسب حقيقية للمواطن.
معادلة مقلوبة: الدولار ينخفض والأسعار ترتفع!
المواطنون الذين اعتادوا ارتفاع الأسعار عند صعود الدولار، فوجئوا بتكرار نفس المشهد رغم انخفاضه، ما فضح أكذوبة العلاقة السببية بين سعر الدولار وغلاء السلع. التناقض الصارخ كشف أن أزمة الأسعار ليست مرتبطة بالدولار بقدر ما هي انعكاس لفوضى اقتصادية عميقة، وتواطؤ رسمي مع قوى السوق، بل وربما تحفيز مباشر على رفع الأسعار من قبل النظام نفسه.
برلمان يُشرعن الغلاء: الضرائب قبل الرقابة
قبيل انتهاء دورته، وافق برلمان الانقلاب على سلسلة تشريعات تُمهد لموجة جديدة من الأعباء على المواطنين، من تعديل قانون القيمة المضافة، إلى فرض ضرائب على البترول الخام، وخفض الدعم الحكومي على الكهرباء والمحروقات بنسبة تصل إلى 50%، ليُحمل المواطن تبعات فشل الدولة في إدارة الدعم والموارد. كل ذلك يتم تحت لافتة التوترات الإقليمية، رغم أن أغلب أسباب التضخم داخليّة وبنيوية.
الأدوية بلا رحمة: المرضى يدفعون فاتورة الفساد
القطاع الدوائي ليس أفضل حالاً، إذ طالبت شعبة الأدوية برفع أسعار أكثر من 1000 صنف بنسبة لا تقل عن 10%. أما الذريعة، فكالعادة: زيادة تكلفة الإنتاج والطاقة، رغم أن 92% من مكونات الأدوية تُستورد بالدولار، الذي تراجع فعليًا. لكن شركات الأدوية، بتواطؤ من هيئة الدواء، تواصل رفع الأسعار تحسبًا لعودة الدولار للارتفاع، في غياب أي رقابة أو التزام اجتماعي.
وفي ظل هذا الانفلات، ارتفعت أسعار أدوية حيوية، وألبان أطفال، ومضادات حيوية بنسب تجاوزت 60%، لتتحول الرعاية الصحية من حق إلى رفاهية.
الغلاء يعمّ: من السماد إلى "الفلافل"
الأزمة لم تتوقف عند الدواء، فقد ارتفعت أسعار الأسمدة بنسبة 40% بعد أزمة الغاز، ما انعكس بدوره على أسعار الغذاء والمنتجات الزراعية، فيما شهدت مواد البناء والأخشاب قفزات جديدة بفعل ارتفاع أسعار المازوت والنقل. ومع غياب الرقابة، أصبحت الأسواق الشعبية مرتعًا لفوضى التسعير، وتحولت أبسط الوجبات الشعبية إلى عبء، حيث ارتفعت أسعار الكشري والفلافل بنسبة تصل إلى 40%.
اقتصاديون: الجنيه قوي ورقيًا.. والاقتصاد الحقيقي يحتضر
يرى أساتذة وخبراء اقتصاد أن تحسن الجنيه الحالي وهمي ومؤقت، ناتج عن تدفقات مالية غير مستدامة مثل الاستثمار في أدوات الدين، وتحويلات العاملين بالخارج، بينما الاقتصاد الحقيقي يترنح، والنمو الصناعي والصادرات في تراجع. ويتوقعون عودة الضغوط على الجنيه قريبًا، مع اتساع العجز التجاري غير النفطي وتراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 54%، بسبب العدوان الإسرائيلي والحرب في المنطقة.
ديون تُجهز على الدولة
مع بلوغ الدين العام نحو 100% من الناتج المحلي، وابتلاع فوائد الدين النصيب الأكبر من الموازنة، أصبحت الدولة في وضع مالي هش، غير قادر على الصمود أمام أي أزمة خارجية أو داخلية مفاجئة. أما "الاقتصاد الحر" الذي يُروج له النظام، فبات غطاءً لفوضى الأسعار، ووسيلة لتجويع الفقراء وابتزاز الطبقة الوسطى.
تحذيرات من "انتحار اقتصادي"
طالب مسئولون تجاريون الحكومة بالتدخل لكبح الأسعار، محذرين من أن ما يسمى بالحرية الاقتصادية بات انتحارًا اقتصاديًا واجتماعيًا، يهدد بفناء صغار التجار، ويقضي على أي فرص لاستقرار السوق، في ظل تسعير غير منضبط، وتحكم فئة محددة في أسعار السلع دون ضوابط.
أزمة اقتصادية
نظام السيسي لا يدير أزمة اقتصادية بل يصنعها ويستثمر فيها؛ يربط كل غلاء بالدولار حين يصعد، لكنه يصمت عند تراجعه، ويواصل تحميل المواطن تكاليف فشله المتكرر. أما الإصلاحات التي يُروج لها النظام، فليست سوى واجهة لتضليل الداخل وتجميل الكارثة أمام الخارج، بينما تسير البلاد نحو دوامة من الغلاء والديون والانهيار الهيكلي دون أفق حقيقي للنجاة.