بينما تغرق حكومة الانقلاب في أزمات اقتصادية طاحنة وارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر، تشهد انتخابات مجلس الشيوخ – الغرفة الثانية للبرلمان – إهداراً فادحاً للمال العام، في مشهد يصفه مراقبون بأنه عبثي ومشبوه، إذ تُنفق الملايين على مجلس شبه صوري، لا يملك صلاحيات تشريعية مؤثرة، ولا يتم انتخاب أعضائه فعلياً، بل تُوزّع المقاعد بالتزكية أو التعيين.
المال مقابل المقعد.. صفقات لا تمر عبر صناديق الاقتراع
صحافيون ومصادر حقوقية أكدوا أن عدداً من المرشحين دفعوا مبالغ تتراوح بين 30 إلى 50 مليون جنيه مصري (أي ما يعادل 600 ألف إلى مليون دولار) للحصول على مقعد بمجلس بلا فعالية، الأمر الذي يطرح تساؤلات ملحّة: لماذا تُهدر كل هذه الأموال؟ وما الهدف الحقيقي من هذه الحملات التي تفوق كثيراً الحد الأقصى للإنفاق الانتخابي القانوني؟
تشير تقارير محلية إلى أن هذه الأموال لا تُصرف على الدعاية فقط، بل تذهب جزء كبير منها كـ"ثمن للترشيح" لصالح الأحزاب السياسية أو كيانات أمنية تتحكم فعلياً في اختيار الأسماء، خاصة ضمن "القوائم الوطنية" المحسوبة على النظام.
غياب الرقابة وتضخم الدعاية: إعلانات بالملايين وصفقات في الظل
رصد "الائتلاف المصري لحقوق الإنسان والتنمية" غياباً تاماً للرقابة على سقف الإنفاق، وانتشاراً غير مسبوق للإعلانات المخالفة، سواء في الشوارع أو عبر المنصات الإلكترونية. وكشف تقرير لموقع "صحيح مصر" أن حجم الإنفاق على الإعلانات السياسية عبر "فيسبوك" فقط تجاوز 3.3 ملايين جنيه، بينما يتم تجاهل الإنفاق الفعلي في الأرض، بما فيه من سلع وخدمات تُوزع على المواطنين، أو رشى انتخابية مقنّعة.
حزب "مستقبل وطن"، الواجهة السياسية للنظام، أنفق وحده نحو 1.6 مليون جنيه على الإعلانات الرقمية، يليه حزب "الجبهة الوطنية"، فيما تراجع الإنفاق من باقي الأحزاب إلى مستويات هامشية، وهو ما يكشف الهيمنة شبه المطلقة لأحزاب السلطة على المشهد.
غسيل أموال عبر السياسة؟
محللون يرون في هذا الإنفاق الضخم بوابة واضحة لغسيل الأموال، خصوصاً أن الأموال المنفقة لا تُخضع لرقابة فعلية، في ظل برلمان منزوع الإرادة يخدم النظام لا المواطنين. ويقول مراقبون عبر مواقع التواصل إن الأموال تُنقل من رجال أعمال مقربين إلى مؤسسات الدولة تحت غطاء "الدعاية الانتخابية"، ثم تُعاد تدويرها عبر شركات الإعلان والإنتاج والديكور المرتبطة بنفس الدوائر، في منظومة متكاملة لتبييض الأموال وتثبيت الولاءات.
مقاعد بالتزكية.. ونتائج محسومة
المفارقة الكبرى أن أغلب مقاعد مجلس الشيوخ تُمنح بالتزكية، أو عبر قوائم مغلقة لا منافسة فيها، أو عبر التعيين الرئاسي المباشر، ما يجعل العملية الانتخابية برمتها شكلية، ويطرح سؤالاً جوهرياً: لماذا كل هذا الإنفاق على انتخابات نتيجتها معروفة سلفاً؟
في تحقيق استقصائي نُشر على موقع "زاوية ثالثة"، كشفت مصادر أن المقعد في القائمة الوطنية بمجلس النواب يُباع بـ70 مليون جنيه، وفي مجلس الشيوخ بـ30 مليوناً، أما التعيين فيكلف المرشح 50 مليون جنيه. هذه الأرقام لم تُنكرها أي جهة رسمية، ما يعزز الاعتقاد بأن البرلمان تحوّل إلى نادٍ مغلق لأصحاب المال والولاء.
الشعب يصرخ: "أطعموا بها الفقراء"
مع كل دورة انتخابية، يتكرر المشهد: دعايات باهظة في بلد يئن تحت الفقر، وقوائم مغلقة تُدار من جهات سيادية، ومجالس بلا فاعلية، وناخبون مغيبون. على مواقع التواصل، كتب مصريون غاضبون: "وفروا ثمن هذه التمثيلية ووزعوه على من لا يجد قوت يومه"، وآخرون تساءلوا: "أليست هذه الانتخابات إهانة للعقل؟ من الذي يشتري مقعداً يعلم أنه لا يملك من أمره شيئاً؟"
مجلس صوري.. لا رقابة ولا مساءلة
يتكوّن مجلس الشيوخ من 300 عضو، يُنتخب ثلثاهم فقط، فيما يُعيّن رئيس الجمهورية الثلث الأخير، وهو ما يعني أن السيسي يتحكم مباشرة في مصير 100 عضو على الأقل. أما الباقي فينتمون في أغلبهم إلى قوائم مغلقة مُسيطر عليها من "مستقبل وطن" وأحزاب تابعة، بينما تُقصى القوى المستقلة والمعارضة الحقيقية من المشاركة.
لا يملك المجلس صلاحية سن القوانين، ولا مساءلة الحكومة، ما يجعله مجرد غرفة ديكور سياسي، يُستخدم لإيهام الخارج بأن هناك تداولاً ديمقراطياً وتمثيلاً برلمانياً.
عملية ممنهجة لغسيل الأموال
ما يجري ليس مجرد انتخابات، بل عملية ممنهجة لغسيل الأموال وإعادة تدوير رجال الأعمال في دوائر الولاء للنظام. مجلس الشيوخ – كغيره من المؤسسات الشكلية – ليس سوى امتداد لتحكم السيسي في كل مفاصل الدولة، وتأكيد على أن المال هو الوسيلة الوحيدة للصعود السياسي، بينما يظل المواطن المصري آخر من يُسأل عن رأيه أو يُحترم صوته.