منذ أحداث صيف 2013، وتحديدًا بعد إزاحة أول رئيس مدني منتخب عبر تدخل عسكري، دخلت مصر في موجة متصاعدة من العنف، لم تقتصر على السياسة فحسب، بل امتدت إلى المجتمع، الشارع، وحتى داخل المنازل، السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل نحن أمام انعكاسات متأخرة لمذابح رابعة والنهضة؟ أم أن الأزمة أعمق، ترتبط بتآكل منظومة الأمن العام لحساب أمن النظام؟
رابعة.. الشرخ الدموي المؤسس
في أغسطس 2013، غرق الميدان في الدم، كانت تلك لحظة فاصلة، لا فقط في مسار جماعة سياسية بعينها، بل في العلاقة بين السلطة والمجتمع ككل، ما جرى لم يكن مجرد فضّ لاعتصام، بل رسالة صارخة بأن الدولة لم تعد تعترف بمفهوم "الخلاف السياسي"، وأن التعامل مع الاعتراض لن يكون سياسيًا بل أمنيًا صرفًا.
من هنا بدأ الانقسام الحاد، وانفجرت موجات من الغضب، بعضها سياسي الطابع، في ظل غلق المجال العام بالكامل، واعتبار المعارضة تهديدًا وجوديًا.
العنف كمنتج للتوحّش الأمني
ما بعد رابعة لم يكن أكثر هدوءا. فبدلًا من البحث عن مصالحة وطنية أو مخرج سياسي، تمادت السلطات في استخدام أدوات القمع: الاعتقالات العشوائية، الإعدامات السريعة، المحاكمات الاستثنائية، والاختفاء القسري. تحوّل جهاز الدولة إلى ما يشبه آلة أمنية ضخمة، تحارب "الظل" وتضرب "الهواء"، بينما تفقد السيطرة على الأرض.
وفي قلب هذا النهج، نشأ جيل جديد من الغضب، جيل لا يرى أمامه قانونًا أو عدالة، بل فقط بطشًا أمنيًا، فتغذى العنف على الغياب المتعمّد لأي مسار سلمي، بهذا، لم يصبح العنف ردّ فعل فردي أو سياسي فحسب، بل سلوكًا جماعيًا مبررًا – في نظر البعض – بالظلم المزمن.
الأمن العام يتهاوى لصالح أمن النظام
وسط هذا التصعيد، انسحبت الدولة من دورها الأساسي في تأمين المواطن، لم تعد الشرطة تعني للمواطن الحماية، بل تعني الخوف. انصبّ التركيز على حماية النظام ورموزه، وتأمين الفعاليات الرسمية، وملاحقة المعارضين، بينما تفشّت الجرائم في الشوارع، وانهار الإحساس بالأمان داخل البيوت.
ظهر ذلك في ازدياد ملحوظ في جرائم القتل العشوائي، العنف الأسري، حوادث السرقة بالإكراه، والتحرش، وحتى السلوك العنيف داخل المدارس، وكأن المجتمع التقط إشارة من أعلى: العنف مسموح، وربما مبرر.
غياب السياسة و"انفجار الصمت"
بغياب السياسة، أُغلق باب التعبير، وأُسدل الستار على أي حوار، لا أحزاب حقيقية، لا نقابات مستقلة، لا صحافة حرة، ولا مجال للاحتجاج السلمي، ومن هنا جاء الانفجار في صور أخرى: عبر الإرهاب، الجريمة، الانتحار، أو الانسحاب التام من الشأن العام.
كل هذه المؤشرات لا يمكن فصلها عن البيئة التي أُنتجت بعد 2013. بيئة من الصمت المفروض، والغضب المكبوت، والخوف المعمّم. كل ذلك تحت شعار محاربة الإرهاب، لكنه في الحقيقة أنتج بيئة خصبة لإرهاب من نوع آخر: الإرهاب المجتمعي اليومي.
خاتمة: مجتمع ما بعد الرصاصة
ما نشهده اليوم من عنف متصاعد ليس صدفة، ولا ظاهرة عابرة، هو نتيجة منطقية لمسار سياسي اختار العنف كحل، والقمع كسياسة، والخوف كوسيلة للحكم.
ومع مرور الوقت، يتعمق الجرح. فكل طفل شاهد جثة، وكل شاب دخل السجن ظلمًا، وكل مواطن فقد الإحساس بالأمان، هم جميعًا مشاريع غدٍ أكثر عنفًا، إذا لم يتغيّر هذا النهج.
مصر لا تحتاج فقط إلى خطة أمنية، بل إلى مصالحة شاملة تعيد الاعتبار للسياسة، للعدالة، ولحق الحياة الكريمة، أما إذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن السؤال لن يكون: لماذا العنف؟ بل: كيف لم ينفجر من قبل؟