مذبحتا رابعة والنهضة: حين يصبح الرقم أداة سياسية لإخفاء الجريمة؟!

- ‎فيتقارير

 

بعد مرور أكثر من اثني عشر عامًا على مذبحتَي رابعة العدوية وميدان النهضة في 14 أغسطس 2013، ما زال الغموض يلفّ العدد الحقيقي للضحايا، في واحدة من أكثر الجرائم دموية في تاريخ مصر الحديث.
الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة بحكومة الانقلاب  حينها تحدثت عن 638 قتيلًا، بينهم 43 من رجال الشرطة. لكن منظمات حقوقية محلية ودولية وثّقت أعدادًا تفوق الألفي قتيل، بينما أشارت شهادات ميدانية إلى تقديرات صادمة تصل إلى خمسة آلاف شهيد، مع تأكيدات على إخفاء جثامين ودفنها في مقابر جماعية بعيدًا عن أي توثيق.

هذا التفاوت الحاد في الأرقام لا يعكس مجرد صعوبة في الإحصاء أثناء الأحداث، بل يكشف استراتيجية متعمدة لإدارة الذاكرة الجماعية عبر تضييق حجم الكارثة أمام الرأي العام المحلي والدولي، بما يحمي القادة العسكريين والسياسيين من أي ملاحقة مستقبلية.

الجيش في مواجهة المدنيين: انحراف عن الدور الدستوري
تدخل الجيش في فض الاعتصامين لم يكن مجرد دعم لوزارة الداخلية، بل كان عملية عسكرية مكتملة الأركان: طائرات مروحية لقنص الفارين، مدرعات ودبابات لإحكام الحصار، وجرافات لإزالة الجثامين والخيام.
هذا الاستخدام المكثف للقوة ضد مدنيين عزّل يمثّل سابقة خطيرة، إذ نقل المؤسسة العسكرية من موقع "حامي الأمن القومي" إلى أداة مباشرة في تصفية الخصوم السياسيين، بما يفتح الباب لتطبيع عسكرة المجال العام في مصر والمنطقة.

الأرقام الغائبة.. والعدالة المؤجلة
غياب الرقم الحقيقي للشهداء هو جزء من الجريمة ذاتها. فالعدالة والمصالحة الوطنية لا يمكن أن تبدأ من دون كشف الحقائق كاملة، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة كل من شارك أو أمر أو غطّى تلك الجرائم.
المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وثّق 932 جثة كاملة، و294 جثة مجزأة، و29 مجهولة الهوية، بينهم 30 مراهقًا و17 امرأة. هذه الأرقام الجزئية وحدها تكفي لإدانة الرواية الرسمية التي سعت منذ اللحظة الأولى إلى طمس المأساة.

الممرات الآمنة.. فخ الموت
أحد أكثر مشاهد الفض قسوة كان قتل الفارين عبر ما سُمّي بـ"الممرات الآمنة". رغم وعود الحكومةالانقلابية، استُهدف الهاربون برصاص القناصة ونيران المروحيات، حتى أولئك الذين رفعوا أيديهم. المستشفيات الميدانية اقتُحمت، الجرحى والأطباء أُعدموا ميدانيًا، والخيام أُحرقت بمن فيها.

القوات الأمنية برّرت هذه الجرائم باعتقادها أن عناصر مسلحة استغلت الممرات، لكن النتيجة كانت إعدامًا جماعيًا خارج نطاق القانون، وصفته تقارير دولية بأنه "جريمة محتملة ضد الإنسانية".

المغزى السياسي للتضارب في الأرقام
التلاعب بالأرقام هنا ليس تفصيلًا إحصائيًا، بل سياسة ممنهجة: كلما كان الرقم أصغر، كان من الأسهل التحكم في السردية، وتحويل الجريمة إلى "عملية أمنية" بدلًا من "مجزرة". هذه المقاربة لم تحمِ النظام فقط من غضب الداخل، بل خففت أيضًا من الضغوط الدولية التي كان يمكن أن تترتب على كشف حجم الدم المسفوك.