في مشهد يلخص اختلال أولويات السلطة، غرقت شوارع مصر ومدنها في ظلام حالك للشهر الثالث على التوالي، بفعل قرارات حكومية "تقشفية" تقضي بوقف تشغيل أعمدة الإنارة ليلاً، وتقليص استهلاك الكهرباء في الميادين والمباني الحكومية، بحجة ترشيد استهلاك الغاز الطبيعي الذي تراجع إنتاجه وقفزت فاتورة استيراده إلى أكثر من 10.5 مليارات دولار حتى يوليو/تموز الماضي، مع توقع أن تبلغ 20 ملياراً بنهاية 2025.
في المقابل، لا تنطبق هذه الإجراءات على العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، أو على القصور والمقرات التابعة للقوات المسلحة، التي تظل مضاءة ليل نهار، ومكيّفة على مدار الساعة، رغم أنها ليست مناطق سكنية فقيرة أو مراكز إنتاج حيوية، بل مراكز حكم وإقامة لكبار المسؤولين والمستثمرين.
ظلام يهدد الأرواح
النتيجة كانت حوادث سير متكررة وخطر داهم على حياة المواطنين، مثلما يروي شاكر بسيوني، الستيني العائد من المنوفية إلى شبرا الخيمة، الذي اضطر لقيادة سيارته القديمة على طريق زراعي سريع بلا إنارة، متتبعاً أضواء السيارات القليلة لتجنب المطبات والحوادث، وبينما يخيم الرعب على شوارع الأحياء الشعبية مع انعدام الأمان، يضطر المواطنون إلى تعديل مواعيدهم لتجنب الحركة ليلاً، في ظل غياب الكهرباء الذي يعطل المياه، والاتصالات، وخدمات النقل.
تدهور الشبكات وفشل الصيانة
وزارة الكهرباء ترجع الانقطاعات إلى "زيادة الأحمال"، لكن خبراء يؤكدون أن السبب أعمق: شبكات متهالكة، وصيانة متوقفة، وتنازع اختصاصات بين الأجهزة، إضافة إلى نقص حاد في إمدادات الغاز اللازم لتشغيل محطات التوليد، ما دفع الحكومة لعقد صفقة "هائلة" مع الاحتلال الإسرائيلي لمضاعفة واردات الغاز، في وقت يعاني فيه المواطنون من ارتفاع فواتير الكهرباء، إذ تصل في بعض الأحياء الراقية إلى 6500 جنيه شهرياً.
التعتيم والاقتصاد وصفقات الغاز
هذا التعتيم لا يمكن فصله عن السياسات الاقتصادية التي ينتهجها السيسي، حيث يتجه الغاز المصري أو عائده نحو التزامات التصدير وصفقات مع إسرائيل، بينما يتم تحميل المواطن أعباء نقص الإمدادات عبر التقنين الإجباري ورفع الأسعار، وبذلك تتحول الإنارة في شوارع القاهرة والدلتا إلى رفاهية محرومة، فيما تنعم المدن والمقرات التي تمثل واجهة النظام السياسي بترف الإضاءة على مدار الساعة، في رسالة غير معلنة بأن أولويات السلطة لا تشمل المواطن العادي.
مقارنة بما قبل 2013
قبل انقلاب 2013، ورغم الأزمات الاقتصادية آنذاك، لم تعرف شوارع مصر هذا المستوى من الإظلام القسري، وكانت الانقطاعات محدودة زمنياً وجغرافياً، وغالباً ما تقابل بخطط عاجلة للصيانة أو التشغيل، أما اليوم، وبعد أكثر من عقد على وعود السيسي بـ"إنارة مصر كلها"، يعيش ملايين المصريين في عتمة فعلية، ويدفعون فواتير هي الأعلى تاريخياً، في تناقض صارخ مع خطاب السلطة الذي روّج لمشاريع طاقة عملاقة، من محطات سيمنز إلى اكتشافات الغاز، التي يبدو أن المستفيد الأكبر منها ليس المواطن، بل الشريك الإسرائيلي وشبكات المصالح المرتبطة بالنظام.