خلال اثني عشر عاماً مضت، تحوّل حلم كثير من أطباء مصر إلى كابوس دفعهم للاختيار بين الهجرة أو الاستقالة، في مشهد يعكس أزمة متفاقمة داخل المنظومة الصحية.
الأزمة عادت إلى الواجهة مع الاستقالات الجماعية لطبيبات مقيمات في قسم النساء والتوليد بجامعة طنطا، اللواتي كشفن في شهاداتهن عن أوضاع وصفت بـ"غير الآدمية": نوبات عمل تمتد حتى 72 ساعة متواصلة دون نوم، نوم على الأرض أو أسرّة المرضى، حرمان من الطعام أو الصلاة، ومعاملة قائمة على العقوبات الجماعية، إضافة إلى غياب الحماية من ضغوط العمل أو الاعتداءات.
رغم التحركات الإدارية والنقابية – من اجتماعات طارئة ووعود بتحسين بيئة العمل – بقيت القضية مرآة لواقع أوسع في مستشفيات الجامعات والمستشفيات الحكومية، حيث قلة الكوادر الطبية، وتدني الأجور، ونقص الإمكانيات، وتهميش فرص التدريب والتطوير.
الأرقام تكشف حجم الكارثة: عام 2022 استقال 4621 طبيباً من القطاع الحكومي، وفي 2024 وحده هاجر نحو 7 آلاف طبيب شاب، فيما يقدَّر عدد الأطباء المصريين العاملين بالخارج بـ120 ألفاً. وبحسب نقابة الأطباء، لدى مصر 9 أطباء فقط لكل 10 آلاف مواطن، أي أقل من نصف المعدل الموصى به عالمياً.
الوجهات المفضلة للهجرة تتصدرها دول الخليج وأوروبا وأمريكا الشمالية، مع تضاعف أعداد الأطباء المصريين في بريطانيا خلال أربع سنوات، لتصبح مصر ثالث أكبر مصدر للأطباء في المنطقة.
ورغم إعلان الحكومة خططاً لزيادة خريجي كليات الطب إلى 29 ألف سنوياً خلال ست سنوات، أثارت تصريحات رئيس الوزراء جدلاً واسعاً حين اعتبر أن هجرة 7 أو 8 آلاف طبيب سنوياً "أمر جيد" يعود بالنفع عبر تحويلات العملة الصعبة، ما رآه مراقبون اعترافاً ضمنياً بالعجز عن وقف نزيف الكفاءات.
هذه الأزمة الممتدة، التي تتقاطع فيها بيئة العمل القاسية مع ضعف الحوافز وانعدام الأمان المهني، تهدد بترك القطاع الصحي في مصر في حالة عجز مزمن، وتضع المرضى أمام مستقبل أكثر قتامة، فيما تتواصل رحلة الأطباء بحثاً عن كرامة مهنية وأفق إنساني خارج حدود الوطن.
منشورات تكشف المستور
بدأت القصة مع سلسلة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبتها طبيبات شابات من القسم ذاته، يحكين فيها تفاصيل حياتهن اليومية التي وصفنها بأنها "غير آدمية".
الطبيبة رنين جبر، التي كانت ثامن المستقيلات من دفعة تضم 15 طبيباً مقيماً، تحدثت عن عمل متواصل يمتد إلى 72 ساعة دون نوم أو راحة، واضطرارها للنوم على الأرض أو على أسرّة المرضى، وحرمانها من أبسط الحقوق الإنسانية، بما في ذلك التقدم لدرجة الماجستير أسوة بزملائها في أقسام أخرى.
وقالت: "قصرت في حق نفسي وأهلي وصحتي وربّي.. وفي النهاية، قالوا لنا بالحرف: وجودكم غير مرحب به، وقدّموا استقالاتكم".
أما الطبيبة هايدي هاني، التي عملت 9 أشهر قبل أن تقدم استقالتها، فوصفت التجربة بأنها "منزوعة الإنسانية والاحترام"، مؤكدة أنّ: "توقيع الجامعة على استقالتها كان: إفراجاً حقيقياً". فيما روت واقعة استدعائها في الرابعة فجراً لرعاية مريضة غير طارئة، ما يعكس، بحسب قولها، غياب المعايير المهنية في إدارة العمل.
من جانبها، أشارت الطبيبة سارة مطاوع، إلى ما وصفته بـ"انتهاكات حقوق أساسية مثل عدم السماح بتناول الطعام أو أداء الصلاة في أوقات العمل، ووجود ما يعرف بـ"البانش" كعقاب جماعي مرهق لأي اعتراض على ظروف العمل".