إغلاق شواطئ الإسكندرية بالكامل للمرة الأولى منذ جائحة كورونا لم يكن مجرد إجراء احترازي لحماية الأرواح من الأمواج العاتية، بل بدا لكثيرين رمزًا أعمق لغضب الطبيعة من الفساد والإهمال الذي طال البحر كما طال البر.
فالقرار الذي اتخذته المحافظة، برفع الرايات الحمراء ومنع ملايين المصطافين من النزول إلى البحر، كشف عن واقع أكثر قتامة: البحر الأبيض المتوسط نفسه صار ضحية لمشروعات العسكر، التي استباحت الشواطئ وحولتها من فضاء عام مفتوح إلى استثمارات مغلقة محاطة بالأسوار و"التسعيرة الباهظة".
لم يعد الغضب محصوراً في الشارع المصري وحده، فحتى البحر بدا وكأنه يعلن رفضه لما آلت إليه أوضاع البلاد. في مشهد غير مسبوق منذ أزمة كورونا عام 2020، أغلقت سلطات الانقلاب كل شواطئ الإسكندرية أمام الزائرين، بحجة ارتفاع الأمواج واضطراب الطقس. لكن خلف هذا القرار تتكشف أسئلة أكبر: هل الفساد والاستيلاء على السواحل لصالح قلة من المنتفعين كان له دوره في غضب البحر؟ وهل ما يحدث هو عقاب إلهي لعصابة العسكر التي حوّلت البحر إلى سلعة تُباع بتذاكر ورسوم باهظة، محرومة على الفقراء؟
القرار شمل 59 شاطئاً تمتد من أبو قير شرقاً حتى العجمي غرباً، بينما لم يُمسّ المنتجعات الفاخرة على طريق الساحل الشمالي التي يسيطر عليها كبار رجال الأعمال وشركات إماراتية، مثل "مراسي" و"هاسيندا باي" و"أمواج". هذه المفارقة تكشف بوضوح أن البحر لم يعد حقاً عاماً، بل احتكرته عصابة الحكم وجعلته حديقة خاصة للأثرياء.
اللافت أنّ أعمال التجريف وبناء المراسي والمنتجعات الفاخرة تسببت في تغييرات بيئية خطيرة، أبرزها ظاهرة النحر في شواطئ الساحل، ما أدى إلى تآكل الرمال وارتفاع المخاطر على المصطافين. خبراء البيئة يؤكدون أن التوسع في الأبراج الشاهقة والموانئ السياحية من دون دراسات دقيقة دمّر التوازن الطبيعي للشاطئ. ومع ذلك تستمر حكومة السيسي في منح التراخيص لمشروعات تلتهم الشواطئ، وكأنها تتعامل مع البحر باعتباره "غنيمة حرب" تباع وتشترى.
ملايين المصريين الذين كانوا يجدون في شواطئ المتوسط والبحر الأحمر متنفساً وحيداً، صاروا اليوم محاصرين بين فقر ينهش حياتهم، ورسوم باهظة تفرضها الحكومة على الشواطئ، أو بوابات مغلقة أمام المنتجعات الخاصة. وبينما تغرق البلاد في الفساد والنهب، يبتلع البحر أرواح الشباب والبسطاء في حوادث غرق متكررة، في ظل ضعف إمكانات الإنقاذ وإهمال السلامة.
هكذا يتجلى المشهد: البحر يُغلق أبوابه في وجه الفقراء، فيما تبقى منتجعات الأثرياء آمنة خلف أسوارها. وكأن البحر نفسه لم يعد يحتمل ما ترتكبه عصابة العسكر من فساد واعتداء على حقوق الناس، ليبقى السؤال مطروحاً: هل غضب البحر رسالة إنذار إلهية بأن الله لا يصلح عمل المفسدين؟
البيئة تدفع الثمن
التوسع العشوائي في بناء الأبراج والمنتجعات على طول الساحل الشمالي، وإنشاء الموانئ الخاصة باليخوت والمرسى البحرية من دون دراسات بيئية دقيقة، تسبب في ظاهرة النحر واختفاء مساحات من الرمال، فضلًا عن تغيّر حركة الأمواج. مثال ذلك ما جرى عند "قرية الدبلوماسيين 4" الملاصقة لمشروع "مراسي" الإماراتي، حيث تسبب إنشاء مارينا ضخمة عام 2021 في اختلال التوازن البيئي، ما دفع وزارة البيئة إلى وقف عمليات التجريف بعد فوات الأوان.
هذا التخريب المنهجي للطبيعة لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة لتحويل الساحل إلى ملعب للأثرياء والمستثمرين الأجانب، فيما غاب أي اعتبار لحماية البيئة أو حق المواطنين في الوصول الحر إلى البحر.
الخصخصة تحرم الفقراء من البحر
بينما تغلق شواطئ الإسكندرية الشعبية بقرارات رسمية "لحماية الأرواح"، تبقى منتجعات الساحل الشمالي – مثل "مراسي" و"هاسيندا" و"تلال" – مفتوحة لسكانها من أصحاب الملايين، الذين يملكون شواطئ خاصة لا يطأها المواطن العادي. تحوّل البحر إلى سلعة، والشاطئ إلى استثمار، والهواء إلى امتياز طبقي.
إنها صورة مكثفة للفجوة الاجتماعية التي صنعها حكم العسكر: الفقراء محرومون من أبسط حقوقهم الطبيعية – البحر – بينما تُفتح الشواطئ للأثرياء وكأنها "حدائق خاصة".
من الغرق إلى الغلاء: تدهور اجتماعي شامل
المفارقة أن قرار غلق الشواطئ جاء بعد حوادث غرق متكررة نتيجة ضعف إمكانات الإنقاذ وغياب معايير السلامة، وهو ما يكشف وجهًا آخر للأزمة: الدولة ترفع شعار "الحفاظ على الأرواح"، بينما تتقاعس عن الاستثمار في البنية التحتية الضرورية لإنقاذ تلك الأرواح، تاركة البحر يتحول إلى فخ قاتل للفقراء الذين لا يجيدون السباحة ولا يملكون ثمن دخول المنتجعات.
وبينما تُهدر المليارات على مشاريع "الأبراج والعواصم الجديدة"، لا يجد المواطن العادي شاطئًا آمنًا أو مجانيًا ليقضي فيه يومًا صيفيًا. هكذا يكتمل المشهد: فساد بيئي، خصخصة للشواطئ، تزايد الحوادث، وتدهور اجتماعي واقتصادي يعكس طبيعة نظام يرى في البحر فرصة للجباية لا منفعة عامة.
البحر كمرآة لغضب أكبر
لم يعد غضب البحر مجرد ظاهرة طبيعية. بل صار، في نظر كثير من المصريين، مرآة لغضب أوسع من الفساد والإفساد الذي طال كل شيء. وكأن الطبيعة نفسها تتمرد على عصابة حوّلت الشواطئ إلى "سلع حصرية"، وحرمت الفقراء من حقهم في البحر كما حرمتهم من العيش الكريم.
فهل ما نشهده اليوم مجرد "ظروف مناخية استثنائية"؟ أم أنه تجسيد حي لحقيقة أكبر: أن الطبيعة لا تسكت طويلًا على فساد البشر، وأن البحر، مثل الشعب، قد يغضب في وجه من سرقوا الوطن؟