في مشهد جديد من مسلسل التفريط في مقدرات البلاد، قررت حكومة الانقلاب بقيادة عبدالفتاح السيسي توسيع دائرة البيع والطرح من شواطئ المتوسط وسواحل الشمال إلى أجمل مناطق البحر الأحمر، حيث الشعاب المرجانية النادرة والثروات البترولية والمعدنية والموانئ الحيوية.
القرار جاء عبر تشكيل لجنة لحصر الأراضي الممتدة على طول 1941 كيلومتراً من السواحل، تمهيداً لتسويقها على المستثمرين المحليين والأجانب، على غرار ما جرى في مشروع "رأس الحكمة" بالمتوسط.
لماذا البحر الأحمر بعد المتوسط؟
الانتقال جنوباً ليس عشوائياً؛ بل يكشف عمق المأزق المالي للنظام، ورغبته في البحث عن "المخزون الأخير" من الأصول ذات القيمة الاستراتيجية.
الضغط المالي الخانق: ديون خارجية قاربت 157 مليار دولار، وخدمة دين تتجاوز 46 مليار دولار في عام واحد.
استنزاف السواحل الشمالية: بعد صفقة رأس الحكمة بـ35 مليار دولار، لم يعد أمام النظام سوى التوجه نحو البحر الأحمر كخزان جديد يمكن رهنه أو بيعه.
الأهمية الجيوسياسية: البحر الأحمر ليس مجرد سياحة وشواطئ؛ بل بوابة استراتيجية بين قناة السويس والمحيط الهندي، وموقع حساس لأي صراع إقليمي.
الموارد الطبيعية: وجود النفط والغاز والذهب، فضلاً عن الموانئ والمطارات، يجعل المنطقة مطمعاً اقتصادياً وعسكرياً.
الضغط الخليجي: مع اتساع النفوذ الإماراتي والسعودي في البحر الأحمر، تتحول مصر إلى مجرد ساحة لتوسيع استثمارات الصناديق السيادية العربية، على حساب السيادة الوطنية.
هل بلغت الخيانة ذروتها؟
المفارقة أن ما كان يُعد خطوطاً حمراء عبر عقود طويلة من الحكم، تحوّل اليوم إلى "عروض بيع مفتوحة"، بقوانين مفصّلة تشرعن نقل الأراضي والأصول للأجانب. بل إن بعض الأراضي الحساسة مثل "رأس شقير" تُستخدم كضمان لإصدار صكوك دَين، ما يعني أنها لم تعد حتى ملكاً سيادياً خالصاً.
ويرى خبراء أن التفريط بلغ ذروته حين انتقلت الحكومة من بيع أراضي داخل المدن أو على أطراف العاصمة إلى طرح الشواطئ البحرية التي تمثل الأمن القومي نفسه، لتتحول سواحل مصر إلى ساحات نفوذ مالي وسياسي خارجي.
الأكاديمي المصري والخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى شاهين، أكد في تصريحات صحفية "، على "الأهمية الاقتصادية والاستثمارية والسياحية لسواحل البحر الأحمر"، لافتا إلى "مخاطر استحواذ الأجانب على سواحل البحر المتوسط والأحمر"، ومبينا أن "خروج الاقتصاد المصري من أزماته لن يكون بالبيع والتفريط في أصول البلاد، وأهم أراضيها وسواحلها".
أستاذ الاقتصاد بكلية "أوكلاند" الأمريكية، قال إن "الأمر الآن لا يتعلق فقط بالأهمية الاقتصادية والاستثمارية والسياحية للمنطقة الواعدة؛ لكن القضية أكبر بكثير وتتعلق بحضور الأجانب بينما كان يمكن للمستثمرين المصريين القيام بمثل هذه المشروعات والأنشطة خاصة وأن كثير منهم أقام مشروعات مماثلة ولديهم سابق خبرات".
ويرى أن "تملك الأجانب في مثل هذه المشروعات تضييع لموارد البلاد، وثانيا: سيتم تحويل وضخ كمية هائلة من الصرف الأجنبي خارج السوق المصرفي المحلي، وثالثا: سيُحدث ذلك ضغطا على العملة المحلية، ورابعا: سترتفع قيمة الدولار، وخامسا: فيما سيكون هناك نفوذ شديد جدا لرؤس الأموال الأجنبية داخل مصر".
ولفت إلى هذا "التوجه الحكومي تكرر بشكل مؤسف، وتاريخيا هناك من الزعماء المصريين من حاربه، ومنهم الاقتصادي المصري الشهير طلعت حرب باشا (1867- 1941)، مؤسس بنك مصر، والرائد في الصناعة الوطنية".
ما وراء الشعارات الاستثمارية
بينما يروّج النظام للخطوة باعتبارها "تعظيماً للعائد الاستثماري"، تكشف الحقائق أن عوائد البيع السابقة لم توقف الانهيار المالي، ولم تحل أزمة الدولار، بل عمّقت التبعية وزادت الضغط على الجنيه.
البيع لم يعد خياراً استثمارياً، بل اضطراراً لإنقاذ سلطة غارقة في الديون، حتى لو كان الثمن التفريط في سواحل تُعد من أهم مواقع الشرق الأوسط.
دائرة التفريط تتسع
من المتوسط إلى البحر الأحمر، تتسع دائرة التفريط، ومعها يتقلص الهامش المتبقي من السيادة الوطنية. وإذا كان بيع "رأس الحكمة" صدمة، فإن طرح البحر الأحمر بأكمله هو إعلان رسمي أن النظام بلغ مرحلة "بيع آخر أوراق الدولة".
أهم القرارات الحكومية بطرح الأراضي لمستثمرين أجانب مؤخرا:
في حزيران/ يونيو الماضي، وعلى بعد نحو 32 كيلومترا من العاصمة المصرية، جرى طرح 11 ألف فدان من أراضي مدينة "6 أكتوبر" لمستثمرين خليجيين ومحليين لإقامة مشروعات عمرانية وخدمية وتجارية وترفيهية.
وبعد حوالي 50 كيلومترا من القاهرة؛ أعلنت شركة العاصمة الإدارية طرح مساحات من الأراضي الجديدة للبيع في يوليو/ تموز الماضي، بمساحة 40 ألف فدان في المرحلة الثانية من المدينة الجديدة، في ظل ديون تبلغ 40 مليار دولار للشركات المنفذة لمشروعاتها.
في 19 حزيران/ يونيو الماضي، وفي غرب مصر، أُعلن عن إجراء قطر محادثات لاستثمار 3.5 مليار دولار في مشروع سياحي على ساحل البحر المتوسط.
وفي 11 حزيران/ يونيو الماضي، وفي شرق البلاد، خصص السيسي، 174.4 كيلومترمربع على ساحل البحر الأحمر بمنطقة (رأس شقير) الاستراتيجية لصالح وزارة المالية، لتُستخدم كضمان لإصدار صكوك سيادية إسلامية.
ومطلع حزيران/ يونيو الماضي، وقع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، عقد إطلاق مدينة "جريان" كأول مدينة على ضفاف الفرع الجديد لنهر النيل عبر تحالف استراتيجي بين الدولة والجيش، و3 شركات رائدة بمجال التطوير العقاري.
وجميعها صفقات تحاكي اتفاق "رأس الحكمة" شباط/ فبراير 2024، مع الإمارات بقيمة 35 مليار دولار، بالساحل الشمالي الغربي للبلاد في مساحة 170.8 مليون متر مربع، والتي تزيد 3 أضعاف عن مساحة جزيرة مانهاتن، وسط نيويورك.
وذلك إلى جانب طرح أصول ومقرات الوزارات والهيئات الحكومية بالقاهرة والتي انتقلت إداراتها للعاصمة الإدارية، وسط رغبة رجال أعمال وصناديق خليجية للاستحواذ على أماكن تراثية وتاريخية وسط العاصمة، وتطوير المقرات الحكومية وتحويلها لفنادق ومناطق تسوق عالمية، بحسب تصريح الإماراتي محمد العبار، في شباط/ فبراير الماضي.
16 آب/ أغسطس الماضي، انتهى "صندوق مصر" السيادي من التقييم المالي للأصول العقارية بمنطقة وسط القاهرة، من مباني الوزارات والهيئات الحكومية وأصول شركات التأمين بالقاهرة والمحافظات، تمهيدا لاتخاذ قرارات استثمارية بشأنها، وطرح الوحدات والمنشآت ومربع الوزارات أمام المستثمرين، بحسب موقع "البورصة" المحلي.
وفي 12 آب/ أغسطس الماضي، أعلن رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي، حصر "الأراضي المطلة على النيل وتقييمها بسعر السوق، ووضع خطط لاستخدامها كاستخدام "سياحي وسكني وإداري".
قبل أن يطالب في أيار/ مايو الماضي بإجراء حصر شامل ومُميكن لجميع أملاك هيئة الأوقاف، لتعظيم استغلال الأصول بطرحها للشراكة مع القطاع الخاص.