الشمول المالي.. إصلاح اقتصادي أم أداة رقابية لجِباية الضرائب؟

- ‎فيتقارير

 

لم يعد ما يُعرف بـ"الشمول المالي" مجرد مصطلح اقتصادي يطرحه البنك المركزي المصري، بل تحوّل إلى أداة سلطوية تسعى من خلالها حكومة الانقلاب إلى بسط قبضتها على جيوب المصريين قبل عقولهم.

 

 فبينما يعلن البنك المركزي بفخر ارتفاع معدلات الشمول المالي إلى 76.3% حتى منتصف 2025، متحدثًا عن "تمكين المرأة" و"دعم الشباب" و"توسيع قاعدة المستفيدين"، يتجاهل السؤال الجوهري: هل الهدف الحقيقي هو خدمة المواطن أم تجريده من آخر مساحات الأمان بعيدًا عن أعين الضرائب والرقابة؟

دفع ملايين المصريين إلى البنوك ومحافظ المحمول

منذ سنوات، يعمل النظام على دفع ملايين المصريين إلى البنوك ومحافظ المحمول والبطاقات مسبقة الدفع، تحت شعار "توسيع نطاق الخدمات الرسمية"، لكن الحقيقة أن هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن أزمة الموازنة العامة وارتفاع الديون وتراجع قدرة الدولة على تحصيل الضرائب بشكل مباشر، فإدخال المصريين إلى "المطبخ المالي الرسمي" يعني ببساطة وضع دخلهم ومصروفاتهم تحت المجهر، وتحويل كل جنيه يتحرك في حياتهم إلى معلومة مخزنة لدى الحكومة، يمكن استخدامها لاحقًا في تقدير الضرائب، أو حتى في فرض رسوم جديدة.

 

الأمر الأخطر أن هذه السياسة تتزامن مع حالة إفلاس اقتصادي غير مسبوقة، دفعت النظام لبيع الأصول، والتفريط في الأراضي، ورفع الدعم، والآن جاء الدور على المواطن البسيط، فبعد أن استنزف النظام ما في جيوبه، يسعى اليوم إلى التحكم في طريقة إنفاقه وادخاره، عبر قنوات "مراقبة" لا يمكن الإفلات منها.

 

حتى الأرقام التي يفاخر بها البنك المركزي، مثل وصول نسبة الشمول المالي بين النساء إلى 70% أو بين الشباب إلى 54%، ليست دليل نجاح، بل جرس إنذار: فالمصري الذي كان يحتفظ بمدخراته البسيطة بعيدًا عن أعين السلطة، أصبح اليوم مكشوفًا، خاضعًا لمعادلات ضريبية وقوانين جائرة قد تُطبّق عليه في أي لحظة.

 

دولة جِباية

إن التوسع في "الشمول المالي" ليس سياسة بريئة، بل جزء من مشروع أكبر لبناء "دولة جباية" تبحث عن كل منفذ لامتصاص ما تبقى من مدخول المصريين، ومثلما فُرضت الضرائب العشوائية والرسوم الخفية على كل خدمة، سيأتي اليوم الذي تتحول فيه هذه الحسابات "المفعلة" إلى بوابة رسمية لنهب المواطن تحت لافتة "العدالة الضريبية".

 

وفي خطوة يروّج لها النظام باعتبارها إنجازًا اقتصاديًّا، أعلن البنك المركزي المصري ارتفاع معدلات الشمول المالي إلى 76.3% حتى نهاية يونيو/حزيران 2025، بما يعادل 53.8 مليون مواطن بالغ يمتلكون حسابات نشطة داخل المنظومة المصرفية، مقارنة بنسبة 74.8% في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

 

ورغم أن الخطاب الرسمي يصوّر هذه القفزة باعتبارها توسعًا في الخدمات المالية وتحقيقًا لـ"التمكين الاقتصادي"، إلا أن المراقبين يرونها وجهًا آخر لسياسات النظام القمعية، هدفها إحكام السيطرة على مدخولات المصريين ومصادر رزقهم، وتحويلهم جميعًا إلى كيان مكشوف أمام أعين الأجهزة المالية والرقابية، تمهيدًا لزيادة الضرائب والرسوم، في ظل أزمة ديون خانقة تبحث الحكومة عن أي منفذ لسدها.

 

النساء والشباب في دائرة الاستهداف

 

البيان الرسمي أشار إلى أن الشمول المالي بين النساء ارتفع إلى 70%، وبين الشباب إلى 54.4%، وهو ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان الأمر تمكينًا اقتصاديًّا حقيقيًّا، أم محاولة لسحب كل الشرائح الاجتماعية، بما فيها الأضعف والأكثر هشاشة، إلى قبضة البنوك، حيث يسهل تتبع كل معاملة مالية مهما صغرت.

 

أرقام "منفوخة" وأهداف غير معلنة

 

وفقًا للأرقام الرسمية، ارتفع الشمول المالي بنسبة 214% منذ عام 2016، أي منذ بداية تطبيق برنامج "الإصلاح الاقتصادي" المفروض من صندوق النقد الدولي، لكن هذه القفزات الرقمية لا تعكس بالضرورة تحسّنًا في مستوى المعيشة، بقدر ما تعكس توسع النظام في إدخال المواطن داخل شبكة مصرفية محكمة، تجعل دخله، مدخراته، وتحويلاته تحت الرقابة المباشرة.

 

مراقبة شاملة بدلًا من عدالة اجتماعية

 

المحللون يؤكدون أن النظام لم يحرص على هذا "الشمول" من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية أو تخفيف الأعباء عن المواطنين، بل لأنه يدرك أن كل جنيه خارج البنوك هو خارج سيطرته. ومن ثم فإن الهدف الحقيقي هو تضييق مساحة الاقتصاد الموازي، الذي يعتمد عليه ملايين المصريين للهرب من الضرائب الباهظة والرسوم العشوائية التي أثقلت كاهلهم.

 

وبذلك، يتحول ما يسمى بـ"الشمول المالي" إلى أداة سياسية واقتصادية لمزيد من التحكم والجباية، بدلًا من أن يكون وسيلة لإنصاف الفقراء وتوسيع فرصهم.