تشهد المنظومة التعليمية انهيارا غير مسبوق فى زمن الانقلاب الدموى حيث تراجع الدورى التعليمى والتربوى للمدارس لصالح البلطجة والعنف والماديات ممثلة فى الدروس الخصوصية .. الأمور وصلت إلى حد لا يمكن السكوت عنه فداخل أسوار المدرسة، التى كان يُفترض أن تكون منارة للعلم والتربية، تتبدل الأدوار وتختلط القيم، فقد غابت صورة المعلم الذى يقف شامخًا أمام طلابه ليغرس فيهم المعرفة والأخلاق، وأصبحنا أمام وقائع صادمة تقتحم الوجدان، طالب يرفع يده على معلمه، وآخر يوجه له السباب، وثالث يعتدى عليه بالضرب.. فى مشهد يهز أركان المنظومة التعليمية بأكملها.
وبعد أن كانت حوادث العنف فى المدارس خلال الفترة الماضية موجهة نحو التلاميذ وبعضهم البعض، إلا أنها اتخذت منحنى جديدًا فى هذه المرة، حيث أصبحت موجهة من الطلاب إلى معلميهم وهو ما يوجب ضرورة مواجهتها فورًا قبل أن تتحول إلى كارثة تضرب العملية التعليمية فى مقتل.
مؤشر خطير
خلال الأسابيع المنصرمة من عمر العام الدراسى الجديد شهدت محافظة القليوبية واقعة خطيرة ارتكبها طالب يدعى إسلام بإحدى مدارس القناطر الخيرية بالقليوبية، حينما تعدى على معلمه أثناء الحصة وقام بتمزيق ملابسه أمام المدرسين والطلاب، وأمام مديرة المدرسة أيضًا، ثم جاء بعض أفراد أسرة الطالب بعد ذلك واقتحموا المدرسة واعتدوا لفظيًا على مديرة المدرسة ووكيلها بالسب.
هذه الواقعة لم تكن الأولى من نوعها ففى العام الماضى وأثناء امتحانات الثانوية العامة تعدت إحدى أولياء الأمور على معلمة كانت تقوم بالمراقبة على لجنة ابنتها لأنها لم تسمح للطالبات بالغش، فى مشهد يتكرر كل عام ما يؤكد انهيار هيبة المعلم أمام الطلاب وأولياء أمورهم.
هذه الحوادث لم تعد مجرد استثناءات فردية، بل باتت مؤشرًا خطيرًا فى علاقة الطالب بمعلمه، وفى صورة المدرسة نفسها كحاضنة للقيم والتربية قبل التعليم.
لائحة الانضباط
من جانبها أكدت الخبيرة التربوية "داليا الحزاوى"، مؤسس ائتلاف أولياء أمور مصر ، أن حوادث العنف فى المدارس، على الرغم من كونها حوادث فردية فإنها تدق ناقوس الخطر وتتطلب اتخاذ إجراءات حازمة ضد العنف فى المدارس.
وطالبت "داليا الحزاوى" فى تصريحات صحفية بضرورة الاهتمام بتفعيل لائحة الانضباط المدرسية بكل حزم بدون تهاون مع تغليظ العقوبات بها، بالإضافة إلى تفعيل الأنشطة المدرسية والرياضية لإخراج طاقات الطلاب وتعزيز القيم الأخلاقية، مشددة على أن عودة الدور الفعال للأخصائى الاجتماعى لتعديل السلوكيات غير المنضبطة والتواصل مع الأسر لمعالجة الخلل أمر ضرورى .
وأشارت إلى ضرورة تركيب كاميرات فى المدارس لرصد أى تجاوزات والاهتمام بالإشراف اليومى لضمان سلامة الطلاب فى المدرسة مطالبة الأسرة بالقيام بدورها فى متابعة أبنائها، حيث إن الانشغال بتوفير الجانب المادى فقط دون الاهتمام بالدور التربوى والرقابى والتوجيهى سبب فى سوء سلوكيات كثير من الأبناء.
ودعت "داليا الحزاوى" وزارة التربية والتعليم بحكومة الانقلاب إلى تبنى خطة لعلاج ظاهرة العنف فى المدارس بالتعاون مع الأسر والمؤسسات غير الحكومية والجامع والكنيسة لبناء جيل مسلح بالعلم والتربية.
دور المدرسة
وقالت استشارى الصحة النفسية والعلاقات الأسرية الدكتورة نادية جمال، إن ظاهرة عنف الطلاب داخل المدارس وفقدانهم للاحترام تجاه المعلم لها جذورعميقة تبدأ من داخل الأسرة وتمتد إلى المدرسة والمجتمع ككل.
وأرجعت نادية جمال فى تصريحات صحفية السلوك العدوانى لدى الطالب إلى فقدان الثقة بالنفس نتيجة تعرضه المستمر للإهانات وقلة الاحترام داخل بيته، حيث لا يُستمع لرأيه ولا يُعامل بتقدير، فينعكس ذلك على سلوكه داخل المدرسة، فيحاول لفت الأنظار بالعنف أو الصوت العالى.
وأضافت أن الطالب فى كثير من الأحيان لم يتعلم كيفية التعامل مع غضبه أو السيطرة على انفعالاته، كما يشعر أحيانًا بالتجاهل أو الظلم من معلمه، فيفتقد الإحساس بالتقدير والتميّز، مؤكدة أن هذا الشعور بالدونية مقارنة بزملائه قد يدفعه إلى التصرف بسلبية وعدوانية للفت الأنظار.
وأشارت نادية جمال إلى أن الحد من هذه الظاهرة يبدأ من داخل المنزل، حيث يتحمل الوالدان مسئولية تعليم الطفل قيمة احترام الآخرين وتقديرهم منذ الصغر، مع توضيح دور المعلم كقدوة فى حياة الطفل، ومتابعة سلوك الابن باستمرار داخل المدرسة والتدخل المبكر لعلاج أى انحراف أو سلوك عدوانى يظهر عليه.
صورة المعلم
وأكدت أهمية دور المدرسة وضرورة تفعيل دور الأخصائى الاجتماعى كما كان فى السابق، بحيث يتعامل مع الطلاب بطرق حديثة تراعى حالتهم النفسية وتدعم احتياجاتهم، داعية إلى زيادة الاهتمام بالأنشطة الثقافية والفنية والرياضية مثل كرة القدم والموسيقى والرسم والإذاعة المدرسية، حيث تسهم هذه الأنشطة فى تعزيز ثقة الطالب بنفسه، وتمنحه فرصًا لإبراز مواهبه والوقوف أمام زملائه بشكل مشرف، وهو ما يسهم فى تهذيب سلوكه وتقليل فرص لجوئه للعنف.
وعلى مستوى المجتمع، شددت نادية جمال على أهمية أن يساهم الإعلام فى تعزيز صورة المعلم وإبراز مكانته واحترامه، وأن تقدم الأندية والمراكز الشبابية دورًا أكبر من مجرد النشاط الرياضى، بحيث تتضمن برامج للدعم النفسى والسلوكى، مثل الندوات والمحاضرات الموجهة لكل فئة عمرية، بهدف تقوية مهارات التواصل والتحكم فى الانفعالات وبناء الثقة بالنفس.
وأكدت أن إعادة هيبة المعلم تبدأ من شعور الطالب أن معلمه يمثل القدوة وأنه صاحب مكانة تستحق الاحترام، مشيرة إلى أن بعض المعلمين أنفسهم قد يواجهون مشكلات نفسية أو اجتماعية أو مادية تؤثر على تعاملهم مع الطلاب، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تنظيم دورات تدريبية للمعلمين لفهم أنماط الشخصيات المختلفة وكيفية التعامل معها، مع ضرورة وجود قوانين واضحة تحمى المعلم من أى ضرر قد يلحق به داخل المدرسة.
الأب والقدوة
وأوصت نادية جمال بضرورة أن يعمل المعلم على تطوير معارفه بشكل دائم، وأن يفصل بين حياته الشخصية ومهنته التربوية، مدركًا أن دوره لا يقتصر على التعليم فقط بل يتعداه إلى دور الأب والقدوة الذى يمنح الطالب الأمان والدعم النفسى.
وأشارت إلى ضرورة تحفيز الطلاب من خلال طرح الأسئلة والمسابقات وتقديم المكافآت أو حتى كلمات التشجيع، مؤكدة أن هذا يسهم بشكل كبير فى بناء علاقة احترام متبادل.
واعربت نادية جمال عن أسفها لأن انتشار الدروس الخصوصية غيّر شكل العلاقة بين المعلم والطالب، مشددة على ضرورة أن يحافظ المعلم على هيبته ومكانته لأنه إذا انكسرت هيبة المعلم أمام طلابه فقد يفقد قدرته على القيام بدوره التربوى والتعليمى على حد سواء.