جاء رفض وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين التوقيع على صفقة الغاز الضخمة مع مصر – التي تتجاوز قيمتها 35 مليار دولار وفق تقديرات مصادر غربية وعبريّة – ليكشف عن أزمة أعمق بكثير من مجرد خلاف اقتصادي على الأسعار. فالتطور المفاجئ أرسل إشارة سياسية واضحة: القاهرة باتت الطرف الأضعف في معادلة الطاقة شرق المتوسّط، رغم تنازلاتها الواسعة في ملف الغاز والحدود البحرية خلال السنوات الأخيرة.
الصفقة التي كانت تُسوَّق باعتبارها نجاحًا دبلوماسيًا واقتصاديًا للنظام المصري، تحوّلت في لحظة إلى ورقة ضغط إسرائيلية صريحة، في وقت تتصاعد فيه المواجهة السياسية بين القاهرة وتل أبيب حول مسار الحرب على غزة، ودور مصر في المفاوضات الإنسانية والأمنية.
إسرائيل تصعّد… ومصر تتراجع
القراءة الأولية لقرار كوهين تشير إلى ما هو أكبر من مجرد خلاف تقني. فبحسب تحليل الباحث الإيطالي ماتيو كولومبو، الزميل في مركز ISPI ومعهد كلينجينديل، فإن الموقف الإسرائيلي يحمل بعدين متداخلين: اقتصادي—بهدف رفع الأسعار وتعظيم العائدات، وسياسي—لدفع القاهرة إلى مواقف أكثر اتساقًا مع الرؤية الإسرائيلية في غزة.
ويضيف كولومبو أن “الرسالة الأساسية التي تبعثها تل أبيب للقاهرة هي: لسنا مضطرين للاعتماد عليكم، ويمكننا العثور على شركاء آخرين يدفعون أكثر”، في إشارة إلى بدء إسرائيل البحث عن بدائل في تركيا وقبرص وأوروبا.
وفي المقابل، تبدو قدرة القاهرة على المناورة محدودة جدًا. فرفع الأسعار، أو تعديل شروط العقد، من شأنه تقويض خطط مصر للحفاظ على دورها كمركز إقليمي لتسييل الغاز، خاصة في ظل التراجع الحاد في إنتاجها المحلي وارتفاع الطلب الداخلي.
صفعة لواشنطن… وتعرية للدور المصري
الأزمة لم تتوقف عند حدود القاهرة وتل أبيب. فبحسب تحليل الباحث الإيطالي جوزيبي غاليانو، رئيس مركز كارلو دي كريستوفوريس للدراسات الاستراتيجية، فإن تجميد الصفقة شكّل ضربة مباشرة للمشروع الأميركي لإقامة منظومة طاقوية تُقوّض النفوذ الروسي وتقلّص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي.
ويشير غاليانو إلى أن إلغاء زيارة وزير الطاقة الأميركي كريس رايت للمنطقة مطلع نوفمبر – بذريعة “أسباب تقنية” – كان إشارة واضحة إلى امتعاض واشنطن من السلوك الإسرائيلي، خاصة أن الولايات المتحدة كانت تعتبر الاتفاق ركيزة لهندسة أمنية جديدة شرق المتوسط.
ووفق التحليل ذاته، يخشى الأميركيون اليوم أن يؤدي التعنت الإسرائيلي إلى إدخال لاعبين جدد مثل الصين وروسيا ضمن مشاريع الطاقة في المنطقة، وهو ما يهدد الاستراتيجية الغربية بأكملها.
القاهرة… من مركز إقليمي إلى هامش تفاوضي
من منظور محلي، يسلّط قرار تل أبيب الضوء على فشل القاهرة في إدارة ملف الغاز وحقوق شرق المتوسط خلال السنوات الأخيرة:
فقد تخلّت مصر عن مساحات واسعة من مناطقها الاقتصادية لصالح إسرائيل وقبرص واليونان، بموجب اتفاقيات ظلّت مثار جدل واسع.
وضخّت استثمارات ضخمة لربط بنيتها التحتية بخطوط الغاز الإسرائيلية.
ووقّعت اتفاقات طويلة الأمد تُتيح لإسرائيل استخدام محطات التسييل المصرية لتصدير غازها إلى أوروبا.
لكن التجربة أثبتت أن الاعتماد المصري على الغاز الإسرائيلي تحوّل إلى نقطة ضعف، وليس إلى رافعة استراتيجية كما كانت القاهرة تروّج. فإسرائيل، رغم استفادتها من البنية التحتية المصرية، لا ترى نفسها ملزمة بأي شراكة طويلة إذا لم تحقق أعلى عائدات ممكنة.
هل تخسر القاهرة آخر أوراقها؟
قرار كوهين قد يكون مجرد خطوة تفاوضية، لكنه يعكس واقعًا سياسيًا مكشوفًا: القاهرة لم تعد تملك أدوات ضغط حقيقية، لا في ملف غزة، ولا في منظومة الطاقة، ولا حتى في مفاوضاتها مع إسرائيل.
ومع دخول تركيا على خط الإنتاج والتصدير بقوة، وتنافس اليونان وقبرص على عقود الاستكشاف، وتراجع الثقة الأوروبية في وعود دول المنطقة—تبدو سياسة السيسي القائمة على “الاعتماد على الغاز الإسرائيلي لسد العجز الداخلي” مقامرة خاسرة.
الأزمة الحالية، كما يختصرها غاليانو، ليست خلافًا اقتصاديًا فحسب، بل “انعكاس لصراع محموم على السيطرة على مصادر الطاقة شرق المتوسّط، تتقاطع فيه الطموحات التركية، والحسابات الأميركية، والمخاوف الإسرائيلية، وتوازنات قاهرة أصبحت أكثر هشاشة من أي وقت مضى”.