خسائر بلا نهاية… لماذا تواصل الهيئات الاقتصادية النزيف رغم خطط «الإصلاح»؟

- ‎فيتقارير

رغم تعاقب خطط “الإصلاح وإعادة الهيكلة”، لا تزال الهيئات والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة في مصر تغرق في خسائر مليارية، تعكس أزمة أعمق من مجرد خلل إداري عابر، وتطرح تساؤلات جدية حول كفاءة القيادات، وغياب المحاسبة، وتحول ما يُسمى بالإصلاح إلى مجرد إعادة تدوير للفشل.
أحدث فصول هذه الأزمة أعلنه رئيس حكومة  مصطفى مدبولي، بإقرار تصفية وإلغاء أربع هيئات اقتصادية من أصل 59، ودمج سبع هيئات في أخرى، وتحويل تسع هيئات اقتصادية إلى هيئات عامة، مع الإبقاء على 39 هيئة دون تغيير، في إطار ما تالانقلاب صفه الحكومة بالمرحلة الأولى من خطة إصلاح الهيئات الاقتصادية وإعادة هيكلتها.
لكن هذه القرارات، التي تبدو على الورق جريئة، تأتي بعد سنوات طويلة من نزيف مالي متواصل، تكبّدت خلالها الدولة خسائر تراكمية بلغت نحو 236.7 مليار جنيه حتى يونيو/حزيران 2024، وفق تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، ما يثير الشكوك حول جدوى المعالجات المطروحة، وقدرتها على كسر الحلقة المفرغة ذاتها.
إصلاح إداري أم إعادة ترتيب للفشل؟
تؤكد الحكومة أن لجنة خاصة شُكلت لإعادة حوكمة الهيئات الاقتصادية، ودراسة أوضاع كل هيئة على حدة، ووضع آليات لإعادة هيكلتها بما يضمن استدامة أدائها. غير أن واقع الأرقام يشير إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في الهياكل التنظيمية، بل في نمط إدارة متكلّس يعتمد على قيادات غير خاضعة للمساءلة، ويعمل بمنطق الإنفاق الحكومي لا بمنطق الكفاءة الاقتصادية.
ففي الوقت الذي حصلت فيه الهيئات الاقتصادية على دعم مباشر من الدولة بلغ 468 مليار جنيه، استمرت الخسائر نتيجة ضعف التخطيط المالي، وسوء استغلال الأصول، وتداخل المصالح، خصوصاً في قطاعات مثل الإعلام والنقل، التي تحولت إلى عبء دائم على الموازنة العامة.
«ماسبيرو» نموذج للهدر المؤسسي
تتصدر الهيئة الوطنية للإعلام قائمة الهيئات الأكثر خسارة، بعدما سجلت خسائر بلغت 11.4 مليار جنيه خلال عام مالي واحد (2023-2024)، في مشهد يلخص أزمة الإعلام الحكومي برمّتها: ترهل إداري، تراجع في المحتوى، فقدان القدرة التنافسية، واستمرار الاعتماد على الدعم الحكومي.
ورغم الحديث المتكرر عن خطط لتطوير ماسبيرو، وإطلاق منصات رقمية، ودمج قنوات، والاستعانة بشركات خاصة لإدارة المحتوى الرقمي، إلا أن هذه الإجراءات تبدو حتى الآن محاولات تجميلية لا تمس جوهر المشكلة، والمتمثل في غياب الرؤية الاقتصادية، وتضخم العمالة، وتحويل الإعلام الرسمي إلى أداة سياسية أكثر منه مؤسسة قادرة على تحقيق الاستدامة المالية.
مفارقة الاحتكار: أرباح مضمونة وخسائر مستمرة
المفارقة اللافتة أن عدداً من الهيئات الاقتصادية يعمل في أنشطة احتكارية تضمن لها أرباحاً شبه مضمونة، مثل هيئة قناة السويس، وهيئة المجتمعات العمرانية، وهيئة التأمين الصحي الشامل، التي تحقق أرباحاً بمليارات الجنيهات سنوياً.
في المقابل، تتصدر هيئات أخرى قائمة الخسائر رغم امتلاكها أصولاً ضخمة، مثل هيئة سكك حديد مصر، والهيئة القومية للأنفاق، وهيئة النقل العام، ما يعكس خللاً بنيوياً في الإدارة لا يمكن تبريره بعوامل السوق أو نقص الموارد، بل يرتبط أساساً بسوء التخطيط، وغياب الكفاءة، واستمرار القيادات ذاتها رغم فشلها.
الخصخصة الجزئية… إنقاذ أم بيع أصول؟
في ظل هذا الواقع، تتزايد مخاوف من أن تتحول خطط “الإصلاح” إلى مدخل لتوسيع الخصخصة، أو بيع أصول استراتيجية تحت ضغط الخسائر، كما هو الحال في الجدل الدائر حول صفقة بيع بنك القاهرة، أو إسناد إدارة المطارات لشركات خاصة، وسط غموض يلف معايير التقييم والشفافية.
ويحذر خبراء من أن تحميل المؤسسات الخاسرة للمواطن، عبر الدعم أو رفع الرسوم أو التفريط في الأصول، دون معالجة جذرية لأسباب الفشل، يعني عملياً نقل كلفة سوء الإدارة من الدولة إلى المجتمع.
أزمة قرار قبل أن تكون أزمة موارد
تكشف تجربة الهيئات الاقتصادية في مصر أن المشكلة ليست نقص التمويل، بل غياب القرار الرشيد، وانعدام المحاسبة، واستمرار إدارة الاقتصاد بعقلية أمنية–بيروقراطية لا ترى في المؤسسات سوى أدوات للسيطرة، لا كيانات إنتاجية.
وبينما تتحدث الحكومة عن «خريطة طريق للإصلاح»، تبقى الأسئلة الجوهرية بلا إجابة:
من يحاسب القيادات التي راكمت الخسائر؟
ولماذا يُعاد تدوير الفشل تحت مسميات جديدة؟
وهل يمتلك النظام السياسي إرادة حقيقية للإصلاح، أم أن ما يجري ليس أكثر من محاولة لشراء الوقت؟
إلى أن تُحسم هذه الأسئلة، ستظل الهيئات الاقتصادية المصرية نموذجاً صارخاً لكيف يمكن للدولة أن تمتلك كل شيء… وتخسر كل شيء في الوقت ذاته.