رصدت ورقة بحثية حجم التحولات التي شهدتها مناهج التاريخ في وزارة التربية والتعليم المصرية منذ بدء توجهات التسوية الإقليمية منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 وحتى مرحلة التسعينات التي شهدت تحولات مذهلة انحرفت بكتب التاريخ عما كانت عليه قبل هذه المرحلة فيما يتعلق بدراسة تاريخ القضية الفلسطينية.
الدراسة التي أعدها الباحث الأكاديمي الدكتور عبدالفتاح ماضي، ونشرها موقع “الجزيرة نت” الخميس 24 مايو الجاري، بعنوان «نكبة تسطيح كتب التاريخ بأيدي أبنائه.. مصر نموذجًا»، تؤكد أن نكبة العرب في عام 1948م لم تقتصر على الهزيمة العسكرية وعمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها العصابات اليهودية المسلحة بدعم غربي مباشر، وإنما امتدت تداعياتها إلى عقول ووجدان أجيال عدة.
الورقة البحثية تلقي الضوء على ما يُصيب عقول تلاميذ التعليم الأساسي من ضرر نتيجة تدهور كتب التاريخ المدرسية في مصر، الدولة العربية الكبرى التي خاض جيشها مع جيوش عربية أخرى عدة حروب لأجل منع إقامة دولة لليهود في فلسطين (1948) ودفاعًا عن سيناء (1956)، وصدًا لاعتداء محتمل على سوريا والأمن القومي العربي (1967) ولتحرير سيناء (1973).
وبحسب الورقة البثحية فقد تدهورت مقررات التاريخ وتراجعت كتب التاريخ المدرسية في مصر منذ مطلع التسعينيات كمًّا وكيفًا، ضمن التراجع العام الذي شمل معظم المقررات وخاصة تلك المتصلة باللغة العربية والتربية الدينية.
وقد تم هذا التراجع بحجة تخفيف المناهج ضمن ما سُمي “تطوير المناهج”، وتزامن أيضًا مع تحولات جذرية شهدتها مصر، أهمها اعتماد نهج التسويات السلمية المنفردة، بجانب تطورات أخرى كانتشار التعليم الخاص، وظاهرة استيراد المناهج الأجنبية، والاعتماد على المعونات الأجنبية التي يذهب جزء منها إلى قطاع التعليم بهدف “تطويره” و”تدريب كوادره” و”تعزيز ثقافة التسامح والسلام”.
ليست مصر وحدها
ووفقًا للورقة البحثية فالأمر لا يقتصر على مصر؛ فقد امتد إلى دول عربية أخرى. وفي 14 يونيو 2017 أفاد وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون – في شهادة أمام الكونغرس – بأن من مهام “المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف” تغيير المناهج والكتب السعودية، وهذا هدف غير معلن على الموقع الإلكتروني للمركز، لكن لم يُكذِّبه أحد من المسؤولين السعوديين.
تأسس هذا المركز بعد القمة الإسلامية الأمريكية التي جمعت في الرياض (مايو 2017) حكام معظم الدول الإسلامية والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أقام حملته الانتخابية للرئاسة على محاربة ما أسماه “أيديولوجية الإسلام المتطرف”، وتضم إداراته متطرفين يعادون علنًا الإسلام كديانة.
رصد التحولات بشأن فلسطين
وعن فلسطين في كتب التاريخ بمناهج التعليم المصرية، تؤكد الورقة البحثية أن التحولات التي جرت تعبر تعبيرًا دقيقًا عن نكبتنا العربية الشاملة، التي امتدت إلى قطاع التعليم الذي يلعب دورًا محوريًا في التنشئة الوطنية وتشكيل الوعي الجمعي العربي، ويحدد اتجاهات النشء وسلوكياتهم في المستقبل.
تقول الورقة البحثية : «كانت ذروة تناول قضية فلسطين في الخمسينيات بحكم توجه مصر القومي الوحدوي آنذاك، ولكن بعد سنوات قليلة من صلح السادات المنفرد عام 1979، وبعد إنشاء مركز “تطوير المناهج والمواد التعليمية” عام 1988 (الذي صار مرتبطًا بشكل أو بآخر بالمعونة الأجنبية ولاسيما الأمريكية)؛ تعرضت الكتب المدرسية لتغييرات كثيرة في المضامين».
وصارت هذه الكتب ــ وفقا للورقة البحثية ــ تعرض موضوعاتها في شكل نقاط مختصرة للغاية، ولم يتم تفعيل الكثير من الوسائل التعليمية المكملة التي أدخلتها شكلاً عمليات التطوير.
وتشير الورقة البحثية إلى أن تلاميذ المدارس المصرية كانوا يدرسون التطورات التاريخية للقضية الفلسطينية بشكل شبه مكتمل قبل 1991، أما بعد هذا التاريخ فقد بدأ التقليص تدريجيًا حتى تم تجاهل موضوعات عدة أو المرور عليها سريعًا، مع تخصيص الجزء الأكبر من المساحة للعمليات العسكرية لحروب مصر مع الإسرائيليين.
كان التلاميذ المصريون يدرسون القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، أي اعتداء من الاستعمار الأوروبي والصهيوني على الأرض العربية، يبدأ من فلسطين ويمتد من النيل إلى الفرات، وكانوا يتعلمون أنها قضية حقوق شرعية ودفاع ضد عصابات يهودية وصهيونية إرهابية مدعومة من الاستعمار الأوروبي. تغير هذا منذ التسعينيات عندما بدأت لغة الكتب المقررة تبتعد تدريجيًا عن هذا الخطاب.
وظلت الكتب الصادرة حتى الثمانينيات تستخدم مصطلحات مثل: “اليهود”، “العصابات الصهيونية”، “الإرهاب اليهودي في فلسطين”، “الإرهاب الصهيوني”، “الإرهابيين اليهود”، “العصابات اليهودية المسلحة” وغيرها.
أما بعد سنوات معدودة من معاهدة السلام وإنشاء مركز تطوير المناهج؛ فلم يستخدم كتاب “تاريخ مصر والعرب الحديث” (الصادر 1991-1992 للمستوى الثانوي) مصطلحات مثل “الاستعمار الصهيوني”، “الإرهاب الصهيوني”، “الإرهاب اليهودي”، ووردت كلمة “إرهابيين” فقط عند الحديث عن نسف فندق الملك داود بالقدس عام 1946، ومذبحة دير ياسين.
وبخصوص حلول الصراع؛ ظلت كتب التاريخ تتحدث عن المقاومة العسكرية والوحدة العربية والمقاطعة الاقتصادية كحلول لقضية فلسطين، وذلك حتى منتصف الثمانينيات حينما حلت التسوية السلمية محل المقاومة.
ففي نسخة 1984 من “تاريخ العرب الحديث والمعاصر” لطلاب المستوى الثانوي؛ أضيفت صفحتان بعنوان: “جهود مصر في إنهاء النزاع العربي الإسرائيلي”، لتبدأ كلمة “النزاع” في الظهور تدريجيًا بدلاً من “الصراع”.
وكان من اللافت أن كتاب “تاريخ مصر والعرب الحديث” لطلاب الثانوية (الصادر عام 1991) اختتم جزء حرب 1948 بعبارة: “ولكن الدول العربية رفضت الاعتراف بدولة إسرائيل، ومن ثم أصبحت القضية ساخنة باستمرار وتنفجر من وقت لآخر، كما سيتبين بعد ذلك؛ وخاصة في عهد ثورة 1952 في مصر وقيادتها للحركة الوحدوية العربية”. وهذه العبارة توحي بأن عدم الاعتراف العربي هو الذي عقّد المشكلة! وظلت هذه العبارة موجودة حتى في الكتاب المقرر 2017 / 2018.
ويرى كتاب التاريخ الصادر 1995 لطلاب الثانوية أن مصر حصلت على مكاسب أكبر مما يحصل عليه العرب في اتفاق أوسلو، وأن هناك رابطًا بين كامب ديفيد ومفاوضات مدريد وأوسلو.
والحقيقة أن هذه الأمور وُضعت في سياق مجتزَأ، لم يعرض للصورة الكبرى التي تضم التداعيات السلبية لاتفاقيتيْ كامب ديفيد والسلام على الأمن القومي العربي، ونزع سلاح سيناء وحصول مصر عليها منقوصة السيادة، ومقاطعة العرب لمصر وتجميد عضويتها في الجامعة العربية، ومقتل السادات على أيدي مناهضين عسكريين احتجاجًا على الاتفاقية، وغير ذلك.
