عُقُولُنا الجادةُ فى محنة

- ‎فيمقالات

شاهدتُ مؤخرًا «فيديو» لأحد علماء البلاغة الأفذاذ، وقد شدَّنى إليه حضور الرجل وانسياب العلم من فمه انسياب ماء النهر فى مجراه، فلما نظرتُ فى نسب المشاهدة وتعليقات المارَّة صُدمتُ، فلم يقف عنده إلا عشرات، تعليقًا ومشاهدة. وفى المقابل نظرتُ فى مشاهدات أحد «المهرجانات» فوجدتها (503 مليون/ خمسمائة وثلاثة ملايين) مشاهدة، إى والله، قابلة للزيادة؛ إذ تم نشره منذ سنة واحدة.

يا ربى! ما هذا التحول؟ وما هذه الهزيمة النكراء؟ وما هذه الفوضى التى تتمدد حتى لم يعد بيننا مكان لمثقف جاد أو أكاديمى مرموق أو عالم فرد، بل تقدمت النفايات وتأخرت الكفايات، وعلتْ أصوات الباطل النشاز حتى توارت خلفها القمم، واختفى إثر ضجيجها أهل الحل والعقد وذوو المواهب والملكات.

أعلم أن هذا لم يحدث فى يوم وليلة، وأنه نتاج عقود من الحرب والخديعة ضد القيم والأعراف، لكنه الآن يجد أرضًا خصبة وتشجيعًا على الانطلاق والسيطرة، أما الجادّون فيدفعون ثمن التمسك والتذكير بهذه القيم؛ فمنهم الصامد الثابت ومنهم من يئس فانزوى منتظرًا ما تنجلى عنه المعركة.

فى أزمنة الفوضى تكون هناك إستراتيجية لصدارة الجهل وتغييب الوعى، ولهذا تفاصيل ذكرناها فى مقالات سابقة؛ بهدف إفساح الساحة للفساد والاستبداد. فما يفعل الكاتب الجاد الذى لا يجد صدًى أو تقديرًا لما يكتب وهو ناتج تجربة وقراءة ممتدتين؟ وما يفعل المثقف الذى ينصح فلا يجد من يقبل نصحه؟ فى حين تنشر إحداهن مقطعًا إباحيًّا لا يتعدى دقيقة تحصد من ورائه إعجاب آلاف المغفلين وملايين الجنيهات الحرام؟

نحن أمام معضلة كبيرة: هناك عقل جمعى مزيف، وهناك مقاومة شريفة لا تجد على الحق أعوانًا، وفى كل ساعة يزداد القوى قوة ويزداد الضعيف ضعفًا. والمطلوب إذًا من كل ذى لُب أن يشارك -قدر استطاعته- فى دفع هذا الضر الذى لا تخطئه العين؛ من تفاهة مقترنة بطمع وأنانية، وسعى حرام لجنى مستحقات دون جهد، وقياس كل شىء بالمال على حساب الدين والقيم الإنسانية..

وإن هذا التردى، وساحته الرئيسة وسائل التواصل الاجتماعى، له عواقبه الوخيمة على الأجيال الناشئة التى لا تنشغل بغير «الأندرويد»؛ فأينما قلَّبتْ الجهاز شاهدتْ مهزلة، ويا ليتهم أدركوا أنها مهزلة، بل إن أبطالها فى نظرهم قدوات، وما يتقلدونه «موضات»؛ فمن ثم راج سوق العرى حتى صار العراة من نجوم «التيك توك» وغيرهم قادة الرأى وأهل الحظوة.

والرجل الحصيف يدرك أن تلك ظاهرة طارئة سرعان ما ستنتهى لو تغير النظام السياسى وتوفر القصد لإنهائها، خصوصًا بعدما سببته من كوارث مجتمعية، وقد وصل الإسفاف النجوع والقرى والتى ما فتئت تعض بنواجذها على الدين والعرف.. وهناك قاعدة ربانية تردُّ اليائسين، وتؤكد أن ذلك خبث طارئ أجلُه قريب؛ (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17]، فالخير راسخ راسخ، والشر زاهق زاهق، وما عند الله خير وأبقى.

(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].. وتلك قاعدة أخرى تشد أزر الأولى، وتضع قانونًا أو ميثاق شرف للمصلحين؛ فلا يغترون بكثرة الخبث، ولا يترددون في الذبِّ عن الحق ولو ندر أتباعه، ولا ييئسون حين يرون الشواذ هم المبرزين المحظوظين، وليتخذوا من الرسل الكرام القدوة، وكان الواحد منهم يُبعث ومعه الرجل ويبعث ومعه الرجلان ويبعث وليس معه أحد، ولينظروا إلى من بقى ألف سنة إلا خمسين عامًا فى قومه ولا مجيب.. (وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40]، لكن الغلبة في النهاية كانت لتلك القلة التى عرفت ربها ووفَّت له.