رجال العقيدة لا يعرفون المستحيل

- ‎فيمقالات

يتعجب كثيرون: كيف لمجموعات جهادية قليلة العدد محدودة الإمكانات، مؤمنة بالله، تتحدى قوى البغى والاستكبار العالمى، فى فلسطين وغيرها، رغم ما تمتلكه تلك القوى المعادية للأمة من جيوش لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، وقد رضخت لها أنظمتنا الحاكمة فباتت معاونة لها، خنجرًا فى ظهور شعوبها، خصمًا لدودًا لحركات الإصلاح والتحرر الوطنى.

هذا هو الفرق بين رجل العقيدة الذى يستعين بالله فلا يعرف المستحيل، وغيره ممن يتبنون مذاهب دنيوية أو الإمعات ممن لا مبدأ لهم ولا رأى، وقد رأيناهم وقد انسلخوا عن دينهم وتاجروا بأوطانهم وفرَّطوا فى أمنها القومى؛ ذلك أن للعقيدة أثرًا عظيمًا فى صياغة القادة، وصناعة الرجال وبناء المجتمعات على أسس ربانية تضمن سيادة العدل وانتفاء الظلم بين الناس.

فالمسلم المجاهد يهب حياته كلها لله، جاعلًا هدفه الأسمى منصبًّا على رضا مولاه فسيان عنده الموت أو البقاء؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، فهو لذلك محكوم بأوامر الشرع، سائر على نهج من سبقوه من الصالحين الذين يزين الإيمان قلوبهم، فلا يجبن ولا يتردد ولا يتهاون ولا يضعف ولا يلين، ولا يجامل أو يدارى أو يذوب، بل يؤثر ولا يتأثر.

لقد كتب الله النصر للمؤمنين، ووعدهم بالعلو فى الدنيا والآخرة، ما داموا مستمسكين بإيمانهم مطيعين لربهم مجاهدين فى سبيله؛ من أجل ذلك فإن رجل العقيدة لا يخشى أحدًا إلا الله، ولا ييأس ولا يقنط، ولا يتأثر بدعاية عدو أو بتثبيط جبان أو تخذيل منهزم. جاء أحدهم إلى «خالد بن الوليد»، فى معركة «اليرموك» يخوِّفه من الروم وقد جاءوا كالسحابة السوداء تسد الأفق تموج بهم الأرض كما يموج البحر صوتهم كالرعد، قال الرجل: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين»، فقال خالد: «ويلك! أتخوفنى بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر (فرسه) برأ من توجعه (وكان خالد قد قطع مسافة شهر فى خمسة أيام لم يكن ينزل من على الفرس إلا للصلاة) وأنهم أُضعفوا فى العدد».

وتوكُّلُ رجلِ العقيدةِ على الله وثقته فى نصره له لا يعنى قعوده عن الإعداد والتجهيز لمعاركه، بل هو سبَّاق إلى كل جديد، ساعٍ إلى كل قوة؛ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ…) [الأنفال: 60]، فالمسلمون حفروا «الخندق» حول المدينة وبذلوا فيه الكثير من الجهد مما روته كتب السيرة، وكان اختراعًا فارسيًّا لم تعرفه العرب، وتعلَّم الصحابىُّ لغة اليهود فى خمسة عشر يومًا ليأمن المسلمون شرَّهم، واخترع المسلمون آلات حربية حسمت لهم النصر فى معارك فاصلة، مرجعهم فى ذلك: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها»، وهم لذلك يستعينون بأهل الخبرة ولو كانوا من غير المسلمين، ويحترفون فى أعمالهم، ويعالجون نقاط ضعفهم، ويحسِّنون من أدائهم.

وإذا كان ثمة خلل أو عجز أو كانوا قلة، بعد بذل الجهد وبعد التزام الطاعة واجتناب المعصية، فإن الله بقدرته وعزته ناصرهم لا شك فى ذلك؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123]، (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]؛ إذ لا قيمة لقوة أو لكثرة يخالطها عُجب أو بطر؛ فإن النصر من عند الله، والهزيمة منشؤها الغرور والتنازع والمعصية؛ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].

إن أرباب العقيدة لا يعجزهم شىء أمام ما يبتغون: النصر أو الشهادة؛ ولثقتهم فيما عند الله؛ (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]؛ ما ولَّد لديهم قوة نفسية عظيمة تتمثل فى المرابطة والثبات، واحتمال المكاره والمشاق، والصبر على الشدائد والمحن ما لا يكون عند غيرهم، وإذا كان الآخرون يملُّون ويستعجلون فإن المجاهدين يدركون من قبل وعورة الطريق، ويعلِّلون النفس بأن فى الانتظار عبادة وأن بعد العسر يسرًا.