الفرق بين «المداراة» و«المداهنة»

- ‎فيمقالات

استدعتْ إجابةُ الكابتن «محمد صلاح» عن الخمر التعريفَ بكلٍّ من المداراة والمداهنة، وحكمهما، وصور المداهنة وعواقبها. ذلك أن الناس انقسموا حول إجابته فريقين: فريق قال بأنه كان حصيفًا فى ردِّه وتلك مداراة، وهى محمودة. والفريق الثانى قال بأن تلك مداهنة، وهى حرام، بل كان يجب أن يكون حاسمًا فى أمرٍ معلومة حرمته، خصوصًا أنه «نجم» ذو شعبية عريضة يتبعه الملايين.

قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن: «وأما الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداهنة: تركُ ما يجب لله من الغيرة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتغافُل عن ذلك لغرض دنيوى وهوى نفسانى، فالاستئناس والمعاشرة مع القدرة على الإنكار هى المداهنة. وأما المداراة فهى درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو مُلَابَسٌ».

إذًا المداهنة هى أن يَلقى المسلمُ الفاسقَ أو الكافرَ، فيُؤالفه ويُؤاكله، ويُشاربه، ويرى أفعاله المنكرة، ويريه الرضا بها ولا ينكرها عليه، فهذه المداهنة التى برَّأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9].

والمداهنة تكون بالأقوال والأفعال والتصرفات، وتكون أيضًا بالصمت والسكوت. فالمداهنة بالقول تكون بالثناء على أهل الباطل والتهوين من أخطائهم؛ والمداهنة بالفعل بحضور مجالسهم وغشيان منتدياتهم دون إنكار عليهم؛ والمداهنة بالسكوت تكون بالصمت والإغضاء عن أخطائهم وعدم بيان عوارها وخبثها وشرها.

وقد ذمَّ العلماء المداهنة من عدة وجوه: أنها صفة من صفات المغضوب عليهم، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]، وفى هذا تحذير للعلماء وذوى الشأن أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم؛ ولأنها سبب لانتشار الشرور فى الأرض، ووسيلة لتزيين القبيح وتصويب الباطل.

ومن المفترض فى الدعاة وقادة الرأى فى المجتمع أن يكونوا هم الأحرص على حسم المواقف من دون تردد أو قلقلة؛ لما يتبعهم من عوام قد يُفتنون بهم. حُكى عن المستشار «حسن الهضيبى» -رحمه الله- أنه كان أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدى الملك عند حلف اليمين القانونية التى يؤديها القضاة أمامه قبل تولى مناصب المستشارين؛ إذ كانت دفعته حوالى عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا فى الانحناء عند حلف اليمين -رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين- حتى إذا جاء دور «الهضيبى» فاجأ الجميع بأنْ مد يده لمصافحة الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورة أنعشت الإباء فيمن بعده، فتبعه سائر المستشارين، فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون خضوع أو انحناء.

وللمداهنة عواقب وخيمة، على الفرد وعلى المجتمع، وعلى الحق وأهله. فإنها تستجلب على فاعلها سخط الله؛ ذلك أنه التمس رضا الناس بسخط الله، وصار الخلق فى نفسه أجلَّ من الله؛ «من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». قال بعض السلف: «من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مخافة المخلوقين نُزعت منه الطاعة، فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخفَّ بحقه».

ومن عواقبها: تقوية أهل الباطل، قال الشيخ ابن باز: «ولو سكت أهل الحق عن بيانه لاستمر المخطئون على أخطائهم، وقلَّدهم غيرهم فى ذلك»، وأنها تضعف الثقة بالحق وأهله، وتجرئ الكفار على الطعن فى ديننا، والتشكيك فيه وبث الشُّبَه والأباطيل حوله، وأنها تحريف للحق وتبديله، قال ابن القيم: «ثم أخذ دينُ المسيح فى التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحلَّ، ولم يبقَ بأيدى النصارى منه شىءٌ، بل رَكَّبوا دينًا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عُبَّاد الأصنام، وراموا بذلك أنْ يتلطفوا للأمم؛ حتى يُدْخِلوهم فى النصرانية، فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسَّدة إلى عبادة الصور التى لا ظل لها».

فإذا كثُر الفساد فى الأرض، وسكت أهل الحق عن إنكاره عمَّت الأمة عقوبة جماعية، فعن زينب بنت جحش (رضى الله عنها) قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».