وسط أجواء من الغموض والتعجل المريب، أقرّ برلمان المنقلب السفيه السيسي، أمس الثلاثاء، مشروع الموازنة العامة الجديدة للدولة للعام المالي 2025/2026، بما تضمنه من أرقام صادمة تعكس بوضوح ملامح الانهيار الاقتصادي المتسارع، والتورط في ربًا فاحش، وتضخم هيئات سيادية تغيب عنها الشفافية والمحاسبة.
ورغم ضخامتها، جاءت الموازنة في صورة مهلهلة تؤكد للمراقبين أنها وثيقة إعلان إفلاس مؤجل، وأداة بيد النظام لتكريس التبعية المالية والهيمنة السلطوية، حيث بلغ إجمالي المصروفات 4.573 تريليون جنيه، مقابل إيرادات لا تتجاوز 3.119 تريليون جنيه، مما يخلق عجزًا فادحًا قدره 1.454 تريليون جنيه (نحو 29 مليار دولار)، هذا بخلاف أقساط الديون!
ووفق الأرقام الرسمية، تبتلع فوائد الديون وحدها أكثر من نصف المصروفات، بما يعادل 2.298 تريليون جنيه، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المالية العامة المصرية، مما دفع اقتصاديين إلى التحذير من أن "الاقتصاد المصري دخل بالفعل منطقة الإفلاس، ولم يتبقّ سوى الإعلان الرسمي".
ضرائب الشعب لتغطية ديون النظام
وتكشف الموازنة عن اعتماد الدولة بشكل شبه كامل على ضرائب المواطنين، حيث تمثل الحصيلة الضريبية 2.654 تريليون جنيه، أي 85% من إجمالي الإيرادات، بينما تراجعت المنح إلى أقل من 10 مليارات جنيه، والإيرادات الأخرى إلى نحو 455 مليارًا، ما يفضح هشاشة مصادر الدخل وغياب أي سياسة إنتاجية حقيقية.
ووفق خبراء، فإن هذه التركيبة تؤكد أن النظام حول الدولة إلى كيان جباية لا إنتاج، مستهلك للديون، وليس مولدًا للثروة. بينما بلغ حجم الاقتراض ومصادر التمويل الأخرى نحو 3.575 تريليون جنيه، أي ما يعادل 17.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعمق الفجوة التمويلية ويرهن الأجيال القادمة تحت وطأة الاستدانة.
تقليص الدعم وزيادة امتيازات النواب
المفارقة الأبرز في الموازنة هي التخفيض الكبير في دعم الوقود بنسبة 51%، من 154 مليار إلى 75 مليار جنيه فقط، مما ينذر بموجة جديدة من رفع أسعار الطاقة. بينما تم اعتماد 75 مليار جنيه لدعم الكهرباء، و3.5 مليارات فقط لتوصيل الغاز للمنازل.
في المقابل، تم تمرير الموازنة التفصيلية لمجلس النواب دون إعلان، ما يرجح تضخم مخصصات النواب سرا، وسط تعتيم واضح على بدلات حضور الجلسات واللجان، في وقت يعاني فيه المواطنون من تآكل الرواتب وغياب العدالة.
تغييب الرقابة والتهرب من المساءلة
لم يُسمح سوى لـ70 نائبًا من أصل 596 بمناقشة الموازنة، في سابقة تكشف عن تغييب ممنهج للرقابة البرلمانية وتحايل سياسي لإمرار موازنة هي الأخطر في تاريخ البلاد.
كما أُقرت موازنات 57 هيئة اقتصادية والهيئة القومية للإنتاج الحربي دون كشف تفصيلاتها، وهو ما يراه الخبراء "أخطر مؤشرات الفساد"، إذ تُدار هذه الهيئات بمليارات الجنيهات خارج الرقابة الحقيقية، ما يشير إلى "جمهورية داخل الدولة"، تُهدر المال العام دون محاسبة.
توصيات شكلية في مواجهة انهيار حتمي
جاءت توصيات لجنة الخطة والموازنة لتحاول رسم ملامح "تحسين شكلي" بلا أي ضمانات، من قبيل وضع استراتيجية متوسطة لإدارة الدين، وتطبيق الحد الأدنى للأجور، وتعيين المؤقتين، وتطوير الضرائب العقارية، وتحويل الدعم العيني إلى نقدي.
لكن اقتصاديين وصفوا تلك التوصيات بـ"الذر للرماد في العيون"، مؤكدين أن الحلول الجذرية لن تبدأ إلا بتفكيك منظومة الفساد المالي التي تغذيها الهيئات السيادية، ومحاسبة المسئولين عن استنزاف الموارد، وتوجيه الإنفاق العام لخدمة الإنتاج والعدالة الاجتماعية، لا لإرضاء الدائنين وشراء الولاءات داخل أروقة السلطة.
كلمة أخيرة
بموازنة تمثل أكثر من نصفها ديون وفوائد، وأكثر من أربعة أخماس إيراداتها ضرائب على الشعب، وبتراجع مخصصات الدعم وارتفاع الاقتراض، لم يعد الحديث عن "الإصلاح الاقتصادي" سوى خطاب للتضليل، بينما تواصل البلاد انحدارها في نفق مظلم، عنوانه: خراب ممنهج وفساد مستشرٍ، برعاية سلطة لا تحاسب نفسها ولا تسمح لغيرها بالمحاسبة.