في خطوة اعتبرها مراقبون امتداداً لهيمنة تل أبيب على مقدرات مصر الاقتصادية، أقدمت الشركات الإسرائيلية الموردة للغاز الطبيعي على خفض الإمدادات إلى الشبكة الوطنية المصرية، مع التلويح بزيادة الأسعار بنسبة تصل إلى 40%، في تحدٍ صارخ للاتفاقات المبرمة بين الجانبين. يأتي ذلك فيما تواجه القاهرة أزمة حادة في إنتاج الغاز الطبيعي وانخفاض قدراتها الإنتاجية إلى 3.7 مليارات قدم مكعبة يومياً، مقارنة بـ6 مليارات عام 2022، ما يفاقم اعتمادها على الغاز الإسرائيلي والغاز المسال المستورد.
ورغم تصريحات مطمئنة من وزارة البترول بحكومة الانقلاب حول الاتفاقيات الدولية وخطط الاستيراد حتى 2026، إلا أن تباطؤ الجانب الإسرائيلي في ضخ الكميات المتفق عليها يكشف عن ضغوط سياسية واقتصادية متزامنة مع ملفات إقليمية كبرى، من أبرزها حصار غزة، وترتيبات صفقة القرن، وتحولات شرق المتوسط.
غاز المتوسط: تنازل استراتيجي تحت سيف الابتزاز
منذ توقيع اتفاقيات تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر عام 2018، بدا واضحاً أن تل أبيب تحولت إلى "شريان حياة" رئيسي لقطاع الطاقة المصري، وهو ما منحها ورقة ضغط لا تقل خطورة عن سلاح المياه لدى إثيوبيا. ومع كل أزمة، تكرر إسرائيل نفس السيناريو: خفض الإمدادات أو التلويح بزيادة الأسعار خارج بنود العقود، كما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة وإيران.
مصادر في الهيئة العامة للبترول كشفت أن الشركات الإسرائيلية تسعى لرفع السعر من 6 دولارات إلى ما بين 7.5 و9 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وهو ما اعتبره مراقبون ابتزازاً صريحاً. وفي حال فشل مصر في الاستجابة، ستواجه مصانع الأسمدة والبتروكيماويات وقطاعات الكهرباء شللاً قد يمتد إلى المواطن العادي مع دخول فصل الصيف.
ما وراء الغاز: كامب ديفيد الاقتصادية وصفقة القرن
الأزمة الحالية تفتح الباب للتساؤل: ما الذي تريده إسرائيل أكثر من ذلك؟ أليس السيسي هو من حاصر غزة براً وبحراً وجواً إرضاءً لنتنياهو؟ أليس هو من تنازل عملياً عن حقوق مصر في غاز المتوسط عبر اتفاقيات ترسيم حدود مريبة، مكنت إسرائيل وقبرص من السيطرة على حقول عملاقة مثل "ليفياثان" و"أفروديت"؟
تحركات القاهرة الاقتصادية في شرق المتوسط لم تخرج عن إطار "كامب ديفيد الاقتصادية"، حيث تتحول مصر تدريجياً إلى سوق استهلاكية للغاز الإسرائيلي بدلاً من منافس إقليمي. بل إن القاهرة قبلت بدور "مركز إقليمي لإسالة الغاز الإسرائيلي" وإعادة تصديره، وهو دور يحمل مكاسب ضخمة لتل أبيب على حساب استقلال القرار المصري.
الإخوان وصفقة القرن: دور السيسي الأمني
سياسياً، يواصل السيسي لعب دور "حارس البوابة الجنوبية لإسرائيل"، ليس فقط عبر قمع التيار الإسلامي والإخوان المسلمين بطلب مباشر من نتنياهو وفق تسريبات متكررة، بل أيضاً عبر تحييد أي قوة قد تعيق تمرير صفقة القرن التي تهدف لتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي. الدور الأمني للنظام المصري شمل كذلك المشاركة في خطط تهجير سكان شمال سيناء، وتسهيل إعادة هندسة الجغرافيا السكانية لصالح ترتيبات إقليمية أوسع.
أمن الطاقة مقابل السيادة؟
في مواجهة الضغوط الإسرائيلية، تتسابق الحكومة المصرية لعقد اتفاقيات استيراد غاز مسال مع قطر، الجزائر، السعودية والولايات المتحدة، والاعتماد على سفن "تغويز" لتلبية الطلب حتى نهاية 2026. لكن هذا الحل المؤقت لا يخفي الحقيقة المرة: غياب استراتيجية اكتفاء ذاتي للطاقة، وارتهان مصر الكامل للأسواق الخارجية.
مع حاجة مصر لنحو 15 مليار دولار لبناء أمن الطاقة خلال عامين فقط، واستمرار عجز الإنتاج المحلي، يتساءل المراقبون: هل أصبحت سيادة القرار المصري رهينة لأنابيب الغاز القادمة من عسقلان؟ وهل بقي للسيسي ما يقدمه لإسرائيل بعد كل ما تم تقديمه من غزة إلى شرق المتوسط؟