منذ انقلاب 3 يوليو 2013، لم يعد النفوذ في مصر يُقاس بالكفاءة أو المسؤولية، بل بمدى الولاء لرأس السلطة، المنقلب السفاح عبد الفتاح السيسي. وبمرور الوقت، تحوّل الجيش والشرطة والقضاء إلى مثلث ذهبي يحكم البلاد بالقمع، ويحصّن نفسه ضد المحاسبة، بينما يُقدَّم المعارضون كقرابين على مذبح "العدالة الزائفة".
وما بين أحكام الإعدام بحق أطفال، ومحاكمات صورية لذوي النفوذ، تتجلى المفارقة الصارخة: القضاء نفسه الذي يُدين المعارضين بقسوة، يُظهر أعظم درجات التساهل حين يتعلق الأمر بأبناء ضباط الجيش والشرطة والقضاة.
طفل المرور نموذجاً: سلوك إجرامي بحماية قضائية
أحدث مثال على هذه المنظومة الفاسدة هو ما يُعرف إعلاميًا بقضية "طفل المرور"، أحمد أبو المجد، نجل أحد القضاة البارزين. بعد أن أُوقف في واقعة سابقة لإهانته أحد ضباط المرور، يعود اليوم إلى ساحات المحاكم في جريمتين جديدتين: اعتداء عنيف باستخدام عصا "بيسبول" ضد أحد الطلاب، وتعاطي مواد مخدّرة ثبتت في التحاليل الرسمية.
ورغم خطورة الجرائم وتوثيقها عبر كاميرات المراقبة، ووجود تقرير طبي يؤكد إصابة المجني عليه بنزيف وارتجاج وكدمات، فقد خرج أبو المجد بكفالة، في مشهد متكرر من مسرحية "العدالة الانتقائية" في دولة السيسي.
بينما القصر يُعدمُون: عبد الرحمن نموذجاً
في المقابل، لا يُعامل كل أطفال مصر كأحمد أبو المجد. فالطفل عبد الرحمن في قضية "عرب شركس" أُدين بالإعدام رغم صغر سنه وقت الاعتقال، بعد محاكمة عسكرية شابتها الخروقات القانونية الجسيمة. نفس القضاء الذي دلّل ابن زميلهم، لم يرَ بأساً في إعدام قاصر باسم "محاربة الإرهاب".
حماية ممنهجة لفساد الأذرع الثلاث: الجيش والشرطة والقضاء
ما يحدث ليس انحرافاً فردياً، بل سياسة دولة. إذ يوفّر السيسي حصانة شبه مطلقة لأذرعه الثلاث (الجيش والشرطة والقضاء)، لكونهم أدواته في القمع والترويع. وفيما يلي جدول يوضح أبرز وقائع الفساد التي طالت رموز هذه المؤسسات، دون أن تطالهم يد العدالة:
جدول أبرز قضايا الفساد في الجيش والشرطة والقضاء
الاسم |
الجهة التابع لها |
التهمة / الفساد المثبت |
الموقف القضائي |
كامل الوزير |
الجيش (وزير النقل) |
شبهة فساد مالي واسع بعقود سكك حديد وميناء السخنة |
لم يُحقق معه – محمي بقرار من السيسي |
اللواء سمير فرج |
الجيش (محافظ الأقصر سابقاً) |
إدانة بالفساد المالي إبان الثورة (2011) |
سُجن فترة وجيزة وأُفرج عنه سريعًا |
أحمد شعبان |
ضابط مخابرات (مكتب السيسي) |
شبهات فساد مالي وإعلامي، وتحكمه بالإعلام |
أُبعد بهدوء عن المشهد بدون مساءلة |
اللواء حبيب العادلي |
الشرطة (وزير الداخلية الأسبق) |
إدانة بالاستيلاء على المال العام (2.4 مليار جنيه) |
أُطلق سراحه بعد تخفيف الحكم |
الضابط محمد إبراهيم عبد الرازق |
الشرطة |
تعذيب حتى الموت لمعتقلين بسجن العازولي |
لم يُحقق معه مطلقًا |
المستشار هشام جنينة |
القضاء (رئيس جهاز المحاسبات السابق) |
فضح الفساد الحكومي (600 مليار جنيه) |
عُزل وسُجن بتهمة "نشر أخبار كاذبة" |
القاضي مدحت الحسيني |
القضاء |
التستر على قضايا اغتصاب وقتل ضباط |
لم يُحاسب، واستمر بالترقي |
محاكمات شكلية وتغطية إعلامية كاذبة
غالبًا ما تُقدَّم مثل هذه القضايا باعتبارها "أدلة على سيادة القانون"، بينما هي محاكمات هزيلة تهدف لذر الرماد في العيون. فالقضية الأخيرة لـ"طفل المرور" تُدار بحرصٍ شديد على ألا تخلّ بتوازن النظام، ولا تمسّ سُمعة القضاء. مثلها مثل قضايا أخرى يتم التكتم عليها أو تسويتها خارج القضاء.
خاتمة:
السيسي لم يبنِ دولة، بل أقام "جمهورية الأذرع الثلاث"، حيث لا يُحاكم الفاسدون إنْ كانوا من رجاله، ولا يُعاقب الجناة إن كانوا من ذوي النفوذ. وفي المقابل، يُسحق الفقراء، وتُسلب أعمار الأبرياء في السجون أو على أعواد المشانق. وبينما يلوّح إعلام النظام بـ"هيبة الدولة"، يتآكل عمقها الأخلاقي والقانوني من الداخل، وتتحوّل مصر إلى دولة طائفٍ مستبدٍّ يحمي فساد أدواته، ويقمع بها كل صوت حر.