رغم غرق الأراضي الزراعية بسبب فتح بوابات سد النهضة دون إخطار مسبق لدولتي المصب مصر والسودان من جانب أثيوبيا، إلا أن دولة العسكر ترفض اتخاذ إجراء على أرض الواقع للرد على التجاوز الأثيوبي، وتكتفي بتصريحات الشجب والإدانة، وهو ما صدر عن عبدالفتاح السيسي الذي حمل أثيوبيا مسئولية الأزمة، وزعم أن مصر لن تفرط في حقوقها المائية
كانت غرفة العمليات المركزية بوزارة الري الانقلاب، قد أعلنت عن جاهزية فروع الغرفة في 15 محافظة معرضة للمخاطر .
وقالت الغرفة: إنها "تجري تقييمًا ميدانيًا بقرية جُزيّ بمحافظة المنوفية لرصد الأضرار التي اقتصرت على غرق حظائر مواشي دون خسائر بشرية، مع الاستعداد لتدخلات عاجلة بقرية دلهوم بمركز أشمون".
سوء إدارة
من ناحيته أكد الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية والأراضي بكلية الزراعة جامعة القاهرة، والخبير بالجمعية العمومية لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، أن مفيض توشكى مفتوح وبكامل طاقته لتصريف كميات كبيرة من المياه، وهو ما تسبب في تدفق المياه إلى مزارع المستثمرين في توشكى وإتلاف بعض المحاصيل هناك، معتبرا أن ما حدث من غمرٍ لأراضي في بعض المحافظات كالمنوفية والبحيرة، يعكس وجود سوء إدارة مشتركة من الجانبين الإثيوبي وسلطات الانقلاب .
وكشف نور الدين في تصريحات صحفية أن إثيوبيا قامت بتصريف نحو 7.2 مليار متر مكعب من المياه خلال عشرة أيام فقط، وهو ما أدى إلى فيضانات واسعة في السودان.
وقال: "وزارة ري الانقلاب أفرغت جزءًا من بحيرة السد العالي بصورة استباقية، بهدف إفساح المجال أمام مياه الفيضان القادمة من إثيوبيا، إلا أن التقديرات الحسابية لم تكن دقيقة بما يكفي، ما نتج عنه تصريف كميات كبيرة أدت إلى ارتفاع منسوب النيل وغمر مساحات زراعية واسعة في بعض مناطق الدلتا المنخفضة، مؤكدا أن ما حدث في المنوفية لم يقتصر على طرح النهر كما ورد في بيان وزارة ري الانقلاب، بل شمل دخول المياه إلى حقول زراعية قائمة، الأمر الذي تسبب في تلف محاصيل ونفوق بعض الماشية في محافظات مثل البحيرة والمنوفية".
طرح النهر
وانتقد نور الدين استخدام مصطلح “أراضي طرح النهر” في بيان وزارة ري الانقلاب، معتبرًا أنه تعبير غير دقيق من الناحية العلمية، لأن جميع الأراضي الخصبة الطينية في مصر هي في الأصل أراضي طرح نهر تكونت من الطمي الذي رسّبه النيل عبر القرون، وبالتالي التوصيف الأدق هو “أراضي شط النهر”، أي الأراضي الملاصقة للمجرى.
وأشار إلى أن أغلب المزارعين المتضررين ليسوا معتدين على أراضي دولة العسكر كما يُشاع، بل يمتلكون عقود إيجار رسمية من وزارة ري الانقلاب ويسددون مقابلها بانتظام، مؤكدًا أن ما حدث نتيجة سوء تقدير وحسابات غير دقيقة في إدارة المياه، من وزارة ري الانقلاب.
وأوضح نور الدين أن غرق ألف فدان من الأراضي الملاصقة لنهر النيل جاء في نهاية موسم المحاصيل الصيفية، مثل: الأرز والذرة، وبالتالي لم تتأثر الزراعة القائمة بشكل مباشر، لكن الضرر الأكبر طال المحاصيل التي كانت في مرحلة التجفيف بعد الحصاد، حيث تعرض بعضها للتلف، بسبب تراكم المياه، وفي المقابل، لم تتأثر المحاصيل الخريفية، مثل: بنجر وقصب السكر بنفس الدرجة.
وفيما يخص الجزر السكنية الواقعة في مجرى النيل، كالوراق والزمالك والذهب، قال: إنها "الأكثر عرضة للخطر في حال حدوث تصريفات مائية جديدة من سد النهضة، لوقوعها داخل المجرى المائي مباشرة، موضحًا أن جزيرتي الوراق والذهب قد تتأثران بشدة نتيجة أي ارتفاع في المنسوب، بينما تظل محافظات الدلتا أكثر تضررًا من محافظات الصعيد، لانخفاض أراضيها وقربها من المصب".
وشدد نور الدين على أن الأزمة الحالية تستدعي مراجعة دقيقة لآليات إدارة المياه والتنسيق الإقليمي، محذرًا من أن غياب الشفافية في إعلان كميات التصريف من سد النهضة يزيد من المخاطر على دولتي المصب، ويدفع إلى ضرورة وجود نظام إنذار مبكر وتنسيق فني ملزم بين مصر والسودان وإثيوبيا.
الإيراد المائي
و اعتبر الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري السابق، أن غرق بعض أراضي طرح النهر مؤخرًا، يرتبط بمجموعة من العوامل الطبيعية والفنية المعقدة، وفي مقدمتها غياب التنسيق حول تشغيل سد النهضة الإثيوبي، موضحًا أن إثيوبيا ترفض حتى الآن توقيع اتفاقية ملزمة بشأن ملء وتشغيل السد بما يحقق أهدافها التنموية من توليد الكهرباء، ويحافظ في الوقت نفسه على الأمن المائي لدولتي المصب، مصر والسودان.
وقال علام في تدوينة له عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: إن "أكبر مخاوف مصر تتعلق بفترات الجفاف الممتد، حين قد تحتفظ أديس أبابا بمخزون مائي ضخم لتوليد الكهرباء، ما يهدد بتقليص كميات المياه الواردة إلى مصر، مشيرا إلى مشروعات ضخمة لتأمين الموارد المائية كإجراء وقائي مؤقت، من بينها معالجة مياه الصرف الزراعي، وتبطين الترع لتقليل الفاقد، وتقليص زراعة المحاصيل الشرهة للمياه كالقصب والأرز، حفاظًا على مخزون كافٍ في بحيرة ناصر لمواجهة أي نقص محتمل في الإيراد المائي".
وأشار إلى أن ما جرى في الأسابيع الماضية تزامن مع امتلاء سد النهضة بالكامل وتصريف كميات محدودة خلال شهري أغسطس وسبتمبر، بالتزامن مع معدلات أمطار استثنائية على النيل الأزرق، رفع الإيراد المائي للنهر إلى نحو 750 مليون متر مكعب يوميًا، في حين كانت السدود السودانية ممتلئة وغير قادرة على استيعاب كميات إضافية من المياه، وهو ما تسبب في غرق مساحات واسعة من الأراضي السودانية، موضحًا أن هذه الزيادات المائية اتجهت نحو مصر بينما كانت بحيرة ناصر ممتلئة بالفعل مع انتهاء موسم الري الصيفي، ما دفع سلطات الانقلاب إلى فتح مفيض توشكى لتصريف المياه الزائدة، وهو ما تسبب في غمر نحو ألف فدان من أراضي طرح النهر المنخفضة.
اتفاق قانوني مُلزم
وأكد السفير رخا أحمد حسن، – مساعد وزير الخارجية الأسبق وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة-، أن المفاوضات بشأن سد النهضة متوقفة حاليًا، إلا أن استئنافها يظل احتمالًا قائمًا، مشددًا على ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم بين مصر وإثيوبيا والسودان لتنظيم إدارة المياه، خصوصًا في فترات الجفاف أو الفيضانات العالية،
وقال حسن في تصريحات صحفية: إن "هذا المطلب يمثل ثابتًا رئيسيًا في الموقف المصري، الذي لن تتنازل عنه القاهرة، باعتباره الضمان الوحيد لتجنب الأضرار الناجمة عن السياسات الأحادية".
واعتبر أن قيام إثيوبيا بفتح أربع بوابات من السد بشكل مفاجئ وتصريف كميات كبيرة من المياه نحو السودان ومصر يعكس غياب التنسيق بين الدول الثلاث، مشيرًا إلى أنه لو وُجد اتفاق ملزم بشأن إدارة السد لما حدث هذا الأمر بتلك الصورة .
وأشار حسن إلى أن فتح أربعة من بوابات سد النهضة قد يكون نتيجة ارتفاع منسوب الفيضان، أو رغبة إثيوبيا في إظهار قدرتها على تشغيل السد وتوليد الكهرباء، مشددا على أن عدم تقديم اثيوبيا أى إخطار مسبق لدولتي المصب، يُبرز مجددًا أهمية التنسيق الثلاثي لتفادي الأضرار المحتملة.
وطالب بممارسة ضغط دولي على إثيوبيا بعد اكتمال بناء السد، موضحا أنه لم يعد هناك مبرر لاستمرار التعنت، وأي اتفاق مرتقب يجب أن يُبنى على الاعتراف بحقيقة أن النيل الأزرق رافد رئيسي من نهر النيل وليس نهرًا إثيوبيًا خالصًا، ما يفرض التزامات قانونية واضحة تجاه دولتي المصب .
جريمة دولية
وقالت الدكتورة باكيناز عبد العظيم زيدان، أستاذة هندسة الموارد المائية والسدود بكلية الهندسة جامعة طنطا، أن الحكومة الإثيوبية اضطرت إلى تصريف كميات أكبر من المياه بعد امتلاء خزان سد النهضة عن آخره وعدم تشغيل التوربينات حتى الآن، مؤكدة أن التشغيل الأحادي لسد النهضة يمثل “جريمة دولية” .
وأضافت باكيناز زيدان في تصريحات صحفية : يحق لمصر والسودان التقدم بشكاوى رسمية إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ضد الممارسات الإثيوبية المنفردة التي تخالف قواعد القانون الدولي للأنهار المشتركة.
وتوقعت ألا تتجاوز تداعيات التصريفات المائية القادمة من سد النهضة الإثيوبي أراضي طرح النهر، موضحة أن هذه الأراضي تُعد جزءاً من مجرى النيل نفسه، وليست مناطق خارجه .
وأشارت باكيناز زيدان إلى أن ما يحدث حاليًا من ارتفاع طفيف في منسوب المياه يشبه ما كان يحدث قبل إنشاء السد العالي خلال موسم الفيضان، حين كانت المياه تغمر طرح النهر والأراضي المحيطة به .
وقالت : "التأثير الحالي يقتصر على ارتفاع محدود في منسوب المياه على جانبي النهر، وقد يؤدي إلى غمر أجزاء من طرح النهر في المحافظات التي يمر بها فرعا النيل، معتبرة أن الحديث عن غمر محافظات بأكملها غير دقيق".
وأوضحت باكيناز زيدان أن هناك ثلاث وسائل رئيسية للاستفادة من المياه وحماية الأراضي الزراعية من الغرق : أولها تخزين المياه في بحيرة ناصر حتى أقصى سعتها، والتي تمت زيادتها فعليًا بنحو 15 مليار متر مكعب من المياه، وثانيها توجيه الفائض إلى مفيض توشكى الذي جرى تطويره ليستوعب كميات كبيرة من المياه، وثالثها فتح بوابات السد العالي عند الضرورة لتصريف المياه الزائدة، سواء لتغذية الأراضي الزراعية مباشرة أو لتطهير مجرى النهر من الرواسب والملوثات .
وفيما يتعلق بالمنخفضات جنوب توشكى، أكدت باكيناز زيدان أن البحيرات امتلأت بالكامل نتيجة زيادة التدفقات المائية، مشيرة إلى أنه يمكن الاستفادة من أي فائض إضافي عبر توجيهه إلى الأراضي الجديدة في غرب الدلتا وتوشكى أو إلى مناطق الصحراء لتغذية الخزانات الجوفية .