مسلم أم مواطن؟ [3/3]

- ‎فيمقالات

الولاء للوطن ليس منافيًا للولاء للدين، فى حدود الضوابط الشرعية الممكنة، فلا يوالى المسلم فى تبديل دينه، فهذا أمرٌ لا مساومة فيه. الإسلام لا يلغى الوطنية كانتماء إلى وطن، ولا يلغى القومية كانتماء إلى أمة، وانتماء المسلمين إلى الأمة الإسلامية لا يلغى انتماءهم إلى أوطانهم المحلية؛ ذلك أن الإسلام أقر التعدد؛ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].

والهُوية ليست ضد المواطنة، بل هى لازمة لها؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسى وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات، وهذا يتطلب وجود هُوية، ومعتقدات وقيم، والوطن الذى ينتسب إليه المواطنون ليس هو الذى يحدد هُويتهم، فالوطن الواحد تتعاقب عليه نظم مختلفة، وربما متناقضة.

ويؤكد الدكتور جعفر شيخ إدريس «أن الهُوية هى النظارة التى يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم، والمواطنون مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته، لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم.. لكن البعض يتوهم أنه بإمكان المواطنين أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطنى فقط، دون اعتبار للانتماء الدينى والأيدلوجى».

وضرب الدكتور إدريس المثل بقضية العلاقات الجنسية، التى يبيحها البعض قبل الزواج، فى حين يحرمها المسلمون والمتدينون من اليهود والنصارى.. فلا بد من إيجاد نظام وطنى يستوعب كل هذه التناقضات الثقافية.

إذًا: مهما كان الإخلاص للوطن؛ فإن الهُوية تسبق ذلك، وتعدد الهُويات فى عدد من الأوطان يوسِّع دائرة الوطن (الاتحاد الأوروبى)، عكس ما يدّعى البعض من أن تعدد الهويات فى الوطن الواحد يؤدى إلى تمزيقه. وفى المواطنة المعاصرة، تكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة، وهذا يلتقى مع المفهوم الإسلامى للتعايش البشرى.

والمسلم مطلوبٌ منه أن يتعامل مع الناس فى جلب المصالح، ودرء المفاسد، وتبادل عواطف الود «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم»، «يا فديك، أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت»، ولا حرج فى أن يتعامل مع الناس وفقًا لقانون الأخلاق وحسن العشرة، بالكلمة الطيبة والعمل الصالح، فيقيم الصداقات، ويبرم العهود والصفقات.. فقد فرح النبى ﷺ بانتصار النصارى على فارس؛ مما جاء أثره فى مطلع سورة الروم.

وإذا كان الإسلام قد عزز رابطة الأُخوة بين المسلمين، وجعلها تتجاوز الزمان والمكان، وأنزل الله فى شأنها آيات صريحة، مثل قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28] -إلا أن هذا لا يناقض المواطنة، بل يعززها؛ إذ إن غير المسلمين فى المجتمع المسلم لا تطبق عليهم هذه الآيات، إنما تطبق على المعتدين على الإسلام، المحاربين لأهله.

إن حب الأرض، وألفتها، والحنين إليها، أمر مركوز فى فطر النفوس من جهة، مأمور به فى الإسلام من جهة أخرى، وقد شدد الإسلام على بذل الجهد فى تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله.

أما وجه الخلاف بين المسلم وغير المسلم، فيما يخص المواطنة، فهو أن المسلم يعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وغيره يعتبرها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عند المسلم، له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد فى سبيل خيره، أما غيره فلا يعنيه إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض.

أما الزعم القائل بأن هذا المبدأ الإسلامى يمزق وحدة الأمة التى تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام، وهو دين الوحدة والمساواة، كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ) [الممتحنة: 8]، فمن أين التفريق إذًا؟!