في ظل خضوع وخنوع علماء السلاطين للعسكر؛ حتى إن أحدهم وصف السفاح السيسي بأنه "نبي الله موسى" وآخر على رأس حزب النور السلفي قدس السفاح تماما مثل عجل بني إسرائيل، وذلك في ظل طغيان انقلاب 30 يونيو 2013 الذي لم يجرؤ على مواجهته سوى القليل من الدعاة؛ حلت يوم 6 ديسمبر الجاري ذكرى وفاة أسد المنابر الشيخ عبد الحميد كشك.
وصار المصريون، بعد الانقلاب العسكري، يرون المحسوبين على العلماء والشيوخ والدعاة يتمسحون ببركة “ولي الأمر” الذي يعادي الإسلام ويكيد للمسلمين جهارا نهارا، ولا يعصون له أمرا ولا يخالفون له جرما، ليتهم يتعلمون من الشيخ كشك، كيف تكون كلمة الحق في وجه السلطان الجائر.
أسد المنابر
مرت هذا الشهر الذكرى الـ26 لرحيل “أسد المنابر” الشيخ عبد الحميد كشك، فالراحل (1933- 1996) هو الكفيف الذي أتقن اللغة العربية وخطب بها على مدى أربعين عاما حتى أسر قلوب ومسامع محبيه ولا زالت خطبه باقية بعد وفاته.
كما يعتبر من أبرز خطباء القرن العشرين في العالم العربي والإسلامي، وله أكثر من 2000 خطبة مسجلة، حفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمانية أعوام، وحصل بتفوق على شهادة كلية أصول الدين بعد حصوله على الشهادة الثانوية الأزهرية فعينته وزارة الأوقاف إماما وهو ابن 31 سنة فما مرت سنتان حتى وجد نفسه رهن الحبس والاعتقال سنة 1966، في عهد الطاغية جمال عبد الناصر ثم أطلق سراحه سنة 1968.
إن شخصية الشيخ عبد الحميد كشك – رحمه الله – من الشخصيات الموسوعية الفريدة التي قلما يجود الزمان بمثلها في زمان كزماننا، لقد كانت كل المعطيات والظروف التي أحاطت بالشيخ منذ نعومة أظافره تقول إنه "لو حافظ على الأخلاق والآداب العامة وتدين تدين العوام لكفاه ذلك، وإذ به يتغلب على كل ظروفه ويقهر كل الأعذار حتى أصبح من صفوة الصفوة في عالمنا المعاصر".
ولم لا؟ وهو الذي أتم حفظ القرآن الكريم في طفولته، وتفوق على أقرانه – على مستوى الجمهورية – في كل مراحله التعليمية حتى أتم التعليم الجامعي، وأتقن اللغة وتبحر في آدابها، وأجاد الخطابة ودروبها، ولمَ لا؟ وهو الذي تعرف على المجتمع بتفاصيله وأسرار طبقاته فما رحم ظالما وما خذل مظلوما.
ولمَ لا؟ وهو الذي اعتاد الجهر بالحق منتقدا به كبار الطغاة في العالم العربي والإسلامي، ولمَ لا؟ وهو الذي تحدى الفاسدين المفسدين من كبار السياسيين والمثقفين والفنانين وغيرهم، حتى جعل منهم مَضربا للتهكم والسخرية أمام العوام.
كانت فترة الستينات من القرن الماضي مليئة بالأحداث السياسية، خصوصا بعد مسرحية اغتيال الطاغية عبدالناصر وتمّ اتهام جماعة الإخوان المسلمين بتدبيرها، مما أدى إلى حملة أمنية واسعة طالت كل ما له علاقة بهم، آنذاك كان من الصعب حقا أن يخرج أحدهم لينتقد سياسات عبدالناصر، حيث كانت المساجد وأماكن العمل بل وحتى الشوارع وحديث الناس اليومي مراقبا بأكمله.
بودكاست الجمعة
وهب الله تعالى الشيخ الكفيف أسلوبا مميزا في الخطابة وصوتا قويا وعلما غزيرا جلب قلوب الناس قبل آذانهم إليه، كانت كلمات الشيخ – رحمه الله تعالى – صافية من قلبه، تخرج بصوته القوي مدوية في المسجد يسمعها القريب والبعيد، طريقة إلقائه مختلفة تمامًا عن طريقة إلقاء الخطباء الآخرين.
كان واسع الاطلاع جدا، كان يقرأ ويخطب في السياسة والحوادث والأخبار والطب والفلك وغيرها، كانت خطبته جامعة شاملة تختلف تماما عن خطب غيره، فبينما كانت الشيوخ التقليديون يتحدثون عن نواقض الوضوء، كان هو يتحدث عن كامب ديفيد والأوضاع الراهنة ببلاده وعن خطايا الفنانين وما فعلوه بالمجتمع المسلم.
كان الناس خائفين من سلطة الانقلاب العسكري بشكل كامل، بل وحتى خطباء المساجد، إذا تكلمت السلطة عن الاشتراكية فحينها هذا يعني أن الاشتراكية من صميم الإسلام ويجب ترسيخها في الجوامع وفي كل مكان ، إلا أن ذلك الشيخ الكفيف ورغم كل ذلك، بقي يهاجم تلك الحملات الأمنية التي تم شنها ضد الإسلاميين طوال الوقت في خطب الجمعة وبعد الصلاة، كانت خطبه عبارة عن ما يعرف اليوم بـPodcast خطبة أسبوعية شاملة بها تعليق على كل ما يجري دون أي مواراة أو اختباء.
لم تستطع كلاب السلطة رشوته بالمال والجاه، ولذا لجأت إلى سجنه كالمعتاد، سُجن الشيخ عبد الحميد كشك في العام 1965 لمدة عامين ونصف في سجن القلعة، وتعرض هناك للتعذيب الشديد على الرغم من أنّه كان شيخا كفيفا.
بعد أن مات جمال عبد الناصر، ألقى الشيخ خطبة يتساءل فيها عن حاله، “لمن الملك اليوم”؟ وكيف أن نهاية كل جبار عنيد ستكون إلى القبر لا محالة، لم يرتح عبد الناصر من الشيخ كشك لا حيا ولا ميتا.
في 6 ديسمبر من العام 1996، وفي يوم الجمعة، أخبر زوجته أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، ورأى معه عمر بن الخطاب، وأن الرسول أمره “سلّم على عمر” فسلم عليه ووقعا ميتا، فأخبرته زوجته عن حديث رسول الله بعدم قص الرؤيا التي يكرهها المرء على غيرها، فأجابها “ومن قال لك أنني أكرهها، إنني لأرجو والله أن تكون كما هي”.
قبل الصلاة، بدأ بصلاة بعض النوافل، وصلى ركعتين، وبينما هو في الركعة الثانية سجد السجدة الأولى، ثم سجد السجدة الثانية واستجاب الله دعوته، ولبى نداءه، وتوفاه رب العالمين وهو ساجد بين يديه، يا لها من خاتمة لشيخ كفيف أفنى حياته في مقارعة الظلمة والظالمين إلى آخر رمق من حياته، فرحمه الله تعالى وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين، وليت علماء السوء يتعلمون منه اليوم.