هذه قصّة الإيجار القديم في مصر

- ‎فيمقالات

"يا أهل الخير، اتقوا الله فيما منحكم الله من ملك، ويا أيتها الحكومة ساعدي المستأجرين على فكّ أزمة المساكن"… هي استغاثة مواطن مصري أراد أن يستأجر شقّةً في حيّ غاردن سيتي في القاهرة، بأجرة 12.5 جنيه شهرياً، واشترط صاحب المنزل دفع خُلو رِجل مائتي جنيه، نُشرت ببريد القُرّاء في صحيفة المقطّم بعنوان "شُقّة لله" في يونيو/ حزيران 1947.

 

تبدأ قصّة الإيجار القديم من لحظة الحرب العالمية الأولى، التي سبّبتْ أزمةً غذائيةً طاحنةً قتلت ما يناهز 2% من المصريين، وأزمات اقتصادية ومعيشية استمرّت طوال فترة العشرينيّات، وصولاً إلى نهاية أربعينيّات القرن العشرين، حين شهدت مصر حالةً غير مسبوقة من التضخّم الحضري، وتفضيل سُكنىَ المدن الكُبرى. ووفقاً للإحصاءات الرسمية فقد بلغ عدد سكّان مصر 19.022 مليون نسمة عام 1947، في حين بلغ سكّان القاهرة وحدها 2.091 مليون نسمة، أي 11% من جملة سكّان مصر، حتى وصل الحال إلى أن يكتب السياسي، والوزير البارز محمد علوبة باشا، عام 1941، أن مصر "ضاقت بساكنيها حتى انحطّ فيها مستوى المعيشة انحطاطاً شنيعاً"، وشاعت في الرأي العام، وبين صفحات الجرائد ومناظرات الأحزاب، طوال العهد الملكي، عبارة المطالبة بـ"تفريج أزمة المساكن في مصر"

 

اضطرّت الحكومة المصرية إلى اتخاذ إجراءات وتشريعات عديدة للحدّ من أزمة السكن، ومن ثمّ بدأتها بقانون نمرة 11 لسنة 1920، بتقييد أجور المساكن، ووضع حدّ أقصى للأجرة، وإن كان القانون قد قيّد (مؤقّتاً واستثنائياً) الأجرة الشهرية للمساكن، إلا أنه قد رتّب حقّاً جديداً؛ وظلّ مثار جدلٍ اجتماعي، وقانوني، إذ نصّ القانون أنه "اعتباراً من تاريخ نشر هذا القانون لا يجوز أن يُخرَج مستأجر من المسكن الذي يشغله إلا بأمر من المحكمة"، بما فتح الباب لحقّ التأبيد في الإقامة، ما دام يدفع الأجرة المُقرَّرة، ولم يستخدم المسكن في غير غرضه.

 

ولم تنفكّ عُقدة السكن، التي باتت هاجساً مقلقاً للمصريين، رغم إصدار حزمة من التشريعات التي تقنّن عدم طرد المُستأجِر، وتضبط تحديد الأجرة، فتفاقمت الأزمة في أثناء (وعقب) الحربَين العالميَّتَين، الأمر الذي أدّى إلى تبنّي الحكومة عام1927 قانون إنشاء الجمعيات التعاونية، وعهدت إليها "ببناء المساكن بقليل النفقات"، بحسب نصّ القانون، وارتبط ذلك الأمر بإنشاء مصلحة التعاون لتكون إحدى إدارات وزارة الشؤون الاجتماعية، حين أشرفت تلك المصلحة على الجمعيات التعاونية، التي عهدت إليها الحكومة حلّ أزمة المساكن. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1951، وسّعتْ حكومة مصطفى النحّاس السابعة صلاحيات الجمعيات التعاونية لبناء المساكن لتشمل بناء المساكن الشعبية، التي كانت خاليةً من كلّ صور الاستغلال والتربّح وآليات السوق. وبمجيء حكم ضبّاط يوليو/ تموز 1952، أصدرت الحكومة ستّة قوانين من 1952 – 1965 عملت جميعها على تخفيض الأجرة الشهرية بنسب راوحت من 20% وصولاً إلى 35% بشكل لم تعرفه مصر، فالمسألة لم تعد ضمان حدّ أقصى للأجرة لا يمكن تجاوزه، بل تخفيض الأجرة بحكم القانون، وهو ما أوضحه الرئيس جمال عبد الناصر بقوله: "إن المُلكية وظيفة اجتماعية إذا اتجهت إلى الاستغلال فقد خرجت عن وظيفتها"، وهو الأمر الذي يتّسق مع روح المرحلة، وطبيعة النظام الذي كان يضبط حركة الاقتصاد والمجتمع وتوزيع الثروة، ولكن مع الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي تتغيّر المسألة، ويصبح السكن أكثر طبقيةً وتبايناً بشكل لم يعهده المصريون، فبعد أن كان ثمّة أحياء مميّزة داخل المدن صارت هناك مدن منفصلة مُسيَّجة، أنشأتها الرأسمالية العقارية الجديدة.

 

    يمكن للحضور الاجتماعي للدولة داخل السوق العقارية الحدّ من مخاطر سيطرة رأس المال على سوق السكن

 

ليس مصادفةً أن يكون العام 1996 بداية انطلاقة شركات التطوير والاستثمار التي مهّدت لمنظومة الإسكان الفاخر والمميّز داخل مجتمعات معزولة عن المدن والأحياء القديمة ذات الكثافة السكّانية المرتفعة، والتشكيلات الطبقية المتداخلة، فهو العام نفسه الذي صدر فيه ما يُعرف بقانون الإيجار الجديد، الذي حرّر العلاقة الإيجارية وأخضعها للقانون المدني. ومن ثمّ، بات لدينا قانونان لإيجار المساكن، القديم والجديد. وأخيراً، أقرّ البرلمان المصري تعديلات جوهرية على القديم فصار قانون الإيجار الجديد هو الأصل، والقانون المُوحَّد، وبما يضمن وجود سوق عقارية واحدة.

 

وبشكل عام، من شأن الاحتكام إلى سوق عقارية واحدة تيسير عملية إعادة تشكيل الحيّز العمراني، والتغيير المكاني – الحضري، ليمكن لكبار المطوّرين العقاريين التخلصّ من عبء القوى البشرية المقيمة في وحدات الإيجار القديم، وهي المحمية بالقانون القديم أو ما يُسمّى حقّ "الامتداد إلى الجيل الأول من المستأجرين"، فقد تُجبر قوانين السوق صغار ومتوسّطي المُلاك على بيع ممتلكاتهم القديمة، بسبب ارتفاع تكاليف الصيانة، والضرائب العقارية، ومستلزمات إعادة البناء ورسومه، الأمر الذي لن يسمح لهم بتحقيق المكاسب المالية التي يتصورونها، ومن ثمّ قد يضطرون إلى البيع.

 

ومن ثمّ، بالرغم من المظالم التي عاناها متوسّطو الملّاك وصغارهم عقوداً، فإن ما سمّاه ديفيد هارفي عملية التراكم عبر الإزاحة هي أساس عمليات التحوّل العمراني الجديد الذي سيواجهونه، إذ يدفع منطق قوة الثروة المالية العقارية إلى شراء وتفريغ الكُتل العمرانية القديمة، حتى يتسنّى بناء وتخطيط مجتمعات وأمكنة جديدة. والحضور الاجتماعي للدولة داخل السوق العقارية، والاستفادة من خبرة مائة عام من قوانين حماية السكّان، وإعادة محاكاة نماذج تاريخية شبيهة بمؤسّسات مثل مصلحة التعاون وجمعيات بناء المساكن، والتدخّل لضبط السوق، من شأنه أن يحدّ من مخاطر سيطرة رأس المال العقاري على سوق السكن.