الدبلوماسية المصرية أداة لتهديد المعارضين

- ‎فيمقالات

 

بقلم / معتز الفجيرى

 

يعرف من يزور حي غاردن سيتي في وسط القاهرة حجم التدابير والحواجز الأمنية الخرسانية، والمبالغ فيها، الموضوعة منذ عقود طويلة في الطرق المؤدية للسفارة البريطانية في القاهرة. قبل أيام، فاجأتنا السلطات المصرية بإزالة هذه الحواجز، الأمر الذي دفع السفارة إلى إعلان إغلاق مبانيها وسط القاهرة مؤقّتاً لمراجعة الآثار الأمنية للقرار، وبعد يومين، أعيد العمل في السفارة بشكل طبيعي بعد تفاهمات دبلوماسية بين الطرفين. ما قامت به السلطات المصرية جاء ردّ فعل مباشراً على ما اعتبرته الحكومة ووسائل الإعلام والأحزاب المناصرة لها تقاعساً من الأجهزة الأمنية في لندن عن منع (وتفريق) احتجاجات سلمية قامت بها دورياً منذ يوليو/ تموز الماضي مجموعة من الشباب المصري المعارض أمام السفارة في لندن، وأمام سفارات وقنصلياتٍ وبعثات مصرية في أوروبا والولايات المتحدّة، احتجاجاً على فشل الحكومة المصرية في تسهيل مرور المساعدات الإنسانية إلى سكان غزّة، وتعبيراً عن الغضب تجاه السياسات الأمنية والاقتصادية في مصر.

 

انتقلت لعبة الكرّ والفرّ بين السلطة المصرية والمعارضين، خصوصاً من الشباب في العواصم الغربية، إلى مرحلةٍ جديدةٍ يشعر المتابع لها بخليط من الحزن والتعجّب لما آلت إليه الأوضاع السياسية الداخلية في البلاد، ودفعت وزارة الخارجية إلى أن تنجرف إلى مشهد عبثي متشنج وعنيف، وهم يتعاملون مع شباب يتظاهر سلمياً أمام السفارات المصرية في أوروبا والولايات المتحدة. وقد انتشر في غضون هذه الأحداث تسريبٌ صوتيُّ صادمٌ لوزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، يطالب فيه أعضاء البعثات الدبلوماسية في الخارج بملاحقة هؤلاء المحتجين والتعرّض لهم واحتجازهم بالقوة داخل مقارّ السفارات. وهو ما جرت بالفعل محاولة تنفيذه، مباشرة بعد هذه التعليمات أمام بعثة مصر لدى الأمم المتحدة في نيويورك، لكن الشرطة الأميركية تدخلت ومنعت محاولة سحب مواطنين أميركيين من أصول مصرية بينهم قاصر، كانوا من ضمن المحتجين، بالعنف إلى داخل مقر البعثة في مشهد جرى تسجيله وبثه بالصوت والصورة.

 

    تسريبٌ صوتيُّ صادمٌ لوزير الخارجية المصري يطالب فيه أعضاء البعثات الدبلوماسية في الخارج بملاحقة  المحتجين والتعرّض لهم واحتجازهم بالقوة داخل مقارّ السفارات

 

تذكّر هذه الأحداث التي تدور في سياق عابر للحدود بفضيحة شهيرة شهدتها روما في مايو/ أيار 2017، حيث تعرّض نشطاء سياسيون وحقوقيون وإعلاميون مصريون للتجسس والتصوير والمراقبة في شوارع المدينة من أفراد عرف لاحقاً ارتباطهم بالسفارة المصرية هناك خلال اجتماع يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في مصر عقد تحت رعاية الشبكة الأورومتوسّطية لحقوق الإنسان. وفي القاهرة في اليوم نفسه الذي أذيعت فيه صور هذا الاجتماع وأسماء المشاركين فيه في وسائل إعلام مصرية، أطلق البرلماني والمذيع التليفزيوني المصري مصطفى بكري تهديداتٍ مباشرة ضد الإعلاميين والمعارضين والناشطين الحقوقيين في أوروبا، ونعتهم بالجواسيس والخونة، مطالباً السلطات المصرية باختطافهم من البلدان الأوروبية وإعادتهم إلى مصر في توابيت ومحاكمتهم جنائياً. أثارت تلك الواقعة ضجة واسعة في إيطاليا وأوروبا وتعرّضت الحكومة المصرية إلى انتقادات شديدة لكون هذه الانتهاكات جرت على أراضي دولة أوروبية.

 

    أصبح وجود أعداد كبيرة من المصريين المسيسين والمعارضين خارج مصر في الدول الغربية، خصوصاً من الشباب، أمرا واقعا، وهو من صنيعة النظام السياسي المصري بالأساس

 

وبعد مرور سنوات على فضيحة روما، كشفت أحداث الأسبوعين السابقين عن توظيف السلطات المصرية شبكة واسعة من المصريين المنخرطين فيما يعرف باتحادات شباب المصريين في الخارج وحشدهم، وتقديم الدعم اللازم لهم لمواجهة مجموعات المصريين الأخرى المعارضة بالعنف والتهديد خلال الوقفات الاحتجاجية أمام السفارات المصرية في البلدان الغربية. لسنوات طويلة، كانت هناك شكوك بشأن علاقة السلطات المصرية بهذه الاتحادات التي كانت تنظّم دورياً وقفات احتجاجية، دعما لزيارات الرئيس المصري في العواصم الغربية، لكن ما كشفت عنه أحداث الأسبوعين السابقين في نيويورك وأمستردام ولندن انتقال شبابٍ من أعضاء هذه الاتحادات إلى مرحلة ممارسة العنف والتهديد المباشر ضد المعارضين المصريين في هذه العواصم. الأمر الذي دفع السلطات البريطانية إلى اعتقال أكثر من شخص من هذه المجموعات المناصرة للحكومة المصرية، الأمر الذي أثار غضب السلطات داخل مصر لاحقاً.

 

وبحسب بيان أصدرته 20 منظمة حقوقية مصرية ودولية بادر به المنبر المصري لحقوق الإنسان، والذي يمثل مجموعة من الحقوقيين المصريين في المهجر، أقدمت الأجهزة الأمنية المصرية على مدار الأسبوع الماضي على اعتقال أفراد من عائلات صحافيين وناشطين مصريين في الخارج واستجوابهم، في بادرة انتقامية موجهه ضد المشاركين في هذه الاحتجاجات ومنظّميها، وقد اتهم البيان توظيف البعثات الدبلوماسية المصرية أداة لما يعرف بالقمع العابر للحدود. لا يمكن تخيّل مسار للحوار الداخلي أو الوئام الوطني في مصر بدون استيعاب المصريين في الخارج واحتوائهم. لقد أصبح وجود أعداد كبيرة من المصريين المسيسين والمعارضين خارج مصر في الدول الغربية، خصوصاً من الشباب، أمراً واقعاً، وهو من صنيعة النظام السياسي المصري بالأساس عبر مرور أعوام من القمع والتضييق على الحقوق المدنية والسياسية في البلاد. مواجهة الحكومة المصرية لهذا الواقع عبر الحشد المضاد وتأليب المصريين على بعضهم بعضاً والانتقام والتهديد والعنف كما شاهدنا أخيراً في شوارع البلدان الغربية، لن يسفر إلا عن مزيد من الاستقطاب السياسي وتفكّك النسيج المجتمعي المصري، وإقحام الدبلوماسية المصرية في تصرّفاتٍ تنال من أدوارها وتقاليدها السياسية والتاريخية، وتعدّ تجاوزاً جسيماً للأعراف والقوانين الدبلوماسية الدولية.