في الوقت الذي تغرق فيه مصر في دوامة الديون والاقتراض من كل اتجاه، يصرّ نظام المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي على التفاخر بمشروع المتحف المصري الكبير الذي بلغت تكلفته نحو 18 مليار جنيه، مقدّماً إيّاه كرمز لـ"النهضة الثقافية" و"استعادة الحضارة المصرية".
لكن خلف هذا البريق المزيّف، تتكشف طبقات من الفساد، والهيمنة العسكرية، والتربح الشخصي، تجعل من المشروع أقرب إلى غنيمة سياسية واقتصادية، لا إنجاز ثقافي كما يروّج له الإعلام الرسمي.
رئيس الجمهورية رئيساً للمتحف
في سابقة غير معهودة في تاريخ المؤسسات الثقافية، نصّ القرار الجمهوري الأخير على أن يتولى السيسي نفسه رئاسة مجلس إدارة المتحف المصري الكبير، بينما يهيمن العسكريون والمقرّبون من الأجهزة السيادية على أغلب مقاعد المجلس.
خطوة كهذه، كما يرى خبراء آثار، ليست سوى تأكيد على رغبة النظام في إحكام السيطرة على إدارة المشروع ومحتوياته، خاصة مع تزايد التساؤلات حول مصير مئات آلاف القطع الأثرية المنقولة من المتحف المصري بالتحرير ومن مخازن أخرى إلى "المتحف الكبير" بمنطقة الأهرامات.
تساؤلات عديدة تطرح نفسها:
هل كان الهدف الحقيقي من هذا النقل الضخم تسهيل حركة القطع الأثرية تمهيداً لعمليات تهريب ممنهجة؟
وهل ما شهدته السنوات الأخيرة من اختفاء آلاف القطع الأثرية المصرية التي ظهرت في متحف اللوفر بأبو ظبي مرتبط بتلك السياسة "المتحفية" الغامضة؟
الهيمنة العسكرية: من مقاولات البناء إلى إدارة المتحف
من يتفحّص تركيبة مجلس الأمناء الجديد يلاحظ فوراً أن الولاء لا الكفاءة هو معيار التعيين.
شخصيات مثل زاهي حواس، خالد العناني، وأحمد غنيم، جميعهم واجهوا على مدار سنوات اتهامات تتعلق بالفساد الإداري وسوء إدارة ملفات الآثار.
أما المقاولون والمستشارون المحسوبون على المؤسسة العسكرية، فقد حوّلوا المشروع إلى ساحة مقاولات مغلقة، تمر عبرها عقود بمليارات الجنيهات لشركات تابعة لضباط سابقين أو رجال أعمال مقربين من الأجهزة الأمنية.
وثائق مسرّبة عامي 2023 و2024 كشفت عن صفقات مشبوهة في أعمال الإنشاء والتجهيز، تضمنت تضخماً غير مبرر في الميزانيات وتأجيلاً متعمداً لافتتاح المتحف مرات متتالية، بهدف إعادة توزيع العقود والاستفادة من فارق الأسعار.
نفوذ إماراتي في قلب المتحف
إحدى المفاجآت المثيرة للجدل كانت تعيين الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، نائب حاكم أبو ظبي ومستشار الأمن الوطني الإماراتي، عضواً في مجلس أمناء المتحف.
هذا الوجود الخليجي في مؤسسة ثقافية مصرية سيادية أثار تساؤلات حول تغلغل النفوذ الإماراتي داخل مفاصل الدولة المصرية عبر بوابة الاستثمار.
طحنون، الذي يقود إمبراطورية اقتصادية هائلة عبر شركة "القابضة" (ADQ)، ضخ مليارات الدولارات في مشاريع مصرية تتركز في البنية التحتية والسياحة والطاقة — والآن، في "التراث المصري".
خبراء يرون أن المتحف الكبير تحوّل من رمز ثقافي وطني إلى مشروع استثماري عابر للسيادة.
"المتحف التجاري الكبير".. هكذا يراه العاملون
داخل وزارة السياحة والآثار، تسود حالة من الإحباط بين العاملين الذين يرون أن المشروع ابتعد تماماً عن رسالته العلمية.
أحد الأثريين تحدّث لمصدر مستقل قائلاً:
"المتحف لم يعد متحفاً، بل شركة مقاولات تُدار بعقلية البيزنس الأمني، كل من يحاول الاعتراض يُستبعد أو يُنقل إلى وظيفة هامشية."
تلك الشهادات تعكس مناخاً خانقاً من التسييس والتربح، أدى إلى هجرة عدد من الكفاءات العلمية المصرية إلى الخارج، وترك فراغاً هائلاً في قطاع إدارة الآثار.
18 مليار جنيه.. رفاهية دولة مديونة
بينما تواصل الحكومة الاقتراض من صندوق النقد الدولي والدول المانحة لتغطية العجز المالي، تبرر إنفاقها الباذخ على المتحف الكبير بأنه "استثمار في المستقبل الثقافي".
لكن الواقع يقول: إن "مصر لا تعاني نقصاً في المتاحف، من القصور الملكية إلى المتاحف الإقليمية المغلقة بسبب الإهمال أو قلة الزوار".
الإنفاق على هذا المشروع العملاق في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة يجعل كثيرين يتساءلون:
هل المتحف الكبير أولوية وطنية، أم مجرد مشروع تجميلي لتلميع صورة نظام فقد شرعيته الشعبية والسياسية؟
متحف للسلطة لا للحضارة
ما يحدث في المتحف المصري الكبير ليس إلا نموذجاً مكثفاً لما يجري في مؤسسات الدولة المصرية منذ 2013:
مركزية القرار، عسكرة الإدارة، تضارب المصالح، وتغليف الفساد بالشعارات الوطنية.
فبدلاً من أن يكون المشروع واجهة لحفظ التراث الإنساني، أصبح واجهة للهيمنة والاستثمار في الواجهة، فيما يتآكل جوهره العلمي والثقافي يوماً بعد يوم.
