بقلم //جمال سلطان
من أهم التجارب السياسية الملهمة في العالم الإسلامي، والتي تمثل كنزا سياسيا للقوى السياسية الإصلاحية العربية والإسلامية في المنطقة، ما قام به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من إنجاز تاريخي فذ، باستعادة مدنية الدولة في تركيا، وعزل المؤسسة العسكرية عن السلطة والحكم والمجتمع، وحماية سلطة الشعب من تغول الجنرالات، وتعزيز مدنية الدولة بخطوات مدروسة وتدريجية وصبورة وشجاعة في الوقت نفسه، وضع رأسه فيها على كفه في بعض مراحلها، لأنه كان صراعا شديد الخطورة، فشل فيه كل السياسيين من حاولوا قبله، من مختلف القوى والأحزاب، بعضهم قتل وبعضهم أعدم وبعضهم سجن وبعضهم أجبر على الخروج من السياسة بكاملها، وهو نفسه تعرض للسجن في بعض الفترات .
كيف فكك أردوغان تلك الدولة العميقة الرهيبة، التي شكلها العسكر، وكانت تستند إلى الدبابة والسلاح، وإلى اختراقات هائلة في القضاء، وفي الشرطة، وفي المخابرات، وفي امبراطوريات إعلامية، وفي امبراطوريات مالية، وفي المافيا التي تمثل أحد أخطر نسخ المافيا مع الإيطالية والروسية، كيف واجه الشاب المدني وقتها كل تلك الشبكة الرهيبة، وكيف نجح في تفكيكها، ثم إخضاعها لحكم القانون ورقابة البرلمان المنتخب، وكيف مكن تركيا وشعبها من انتزاع حق السيادة في القرار السياسي وفي التشريع وفي مختلف صور إدارة الدولة والمال العام؟ هذا سؤال ينبغي أن يدرس الإجابة عليه كل مهموم بمشروعات الإصلاح السياسي في المنطقة .
ومن أهم تلك الإنجازات التاريخية التي حققها أردوغان للشعب التركي، والدولة التركية، لتعميق وتعزيز مدنية الدولة في تركيا وحمايتها من أطماع الجنرالات وتغول العسكرة :
- إلغاء النص الدستوري على حق الجيش في التدخل لحماية الديمقراطية، والذي كان يستند إليه الجنرالات في السيطرة وعمل الانقلابات على الحكومات المنتخبة، وقصر دور الجيش على حماية الوطن وحدوده.
- تعديل قانون المجلس الأعلى العسكري لتكون الغالبية في عضويته للمؤسسات والوزارات المدنية.
- إلغاء شرط تولي قائد عسكري منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي ، ومنحه لشخصية مدنية.
- قرارات المجلس الأعلى العسكري يمكن الطعن عليها أمام القضاء المدني.
- إخضاع جميع المؤسسات العسكرية ذات الطابع المدني كالمستشفيات والمدارس لإدارة وإشراف وزارات مدنية.
- إلغاء محاكمة أي مدني أمام القضاء العسكري، أيا كانت التهمة الموجهة إليه.
- قصر دور المحاكم العسكرية على ما يتعلق بالإخلال بالنظام العسكري الداخلي وللعسكريين حصريا.
- جميع مخالفات وجرائم العسكريين في الحياة العامة يتم النظر فيها أمام القضاء المدني.
- إلغاء أي تدخل للجيش في التعليم والمؤسسات الإعلامية وإلغاء أي صورة من صور حضور العسكريين فيها.
ويأمل أردوغان أن يختتم حياته السياسية بهدية عمره للشعب التركي، وهو دستور مدني جديد، بديل للدستور الذي وضعه بالأساس الانقلاب العسكري في 1980، فعلى الرغم من التعديلات التي أجراها عليه، إلا أنه يحلم بإنجاز دستور مدني شامل، يؤسس لمستقبل أكثر استقرارا للدولة التركية، كدولة مؤسسات مدنية، وهو الآن يجري اتصالات ومبادرات مع كل الأحزاب والقوى السياسية في تركيا من أجل التمهيد لهذه الخطوة التاريخية، التي يعتبرها من أولى أولوياته في المرحلة الحالية.
التجربة التركية شديدة الثراء، وما فعله أردوغان فيها مهم لأقصى مدى، ومن الضروري للغاية، أن تتم دراستها بعمق، من القوى الإصلاحية العربية، بغض النظر عن موقفك من أردوغان نفسه وسياساته، وسواء كنت مؤيدا له أو ساخطا عليه.